Monday, January 26, 2009


القبور ..... يوسف أدريس


=========


«كانت أشجار الكافور طويلة متباعدة وحيدة، وأوراقها تخرفش وتوشوش بنغم مبهم غامض وكان الطريق الذى أتى منه مهجورا كعادته، والناس يسلكون غيره من الطرق، والأطفال يخافونه وينسجون حوله أقاصيص الغيلان وقصور الجن، وأمامه كانت تتبعثر المقابر متقاربة متلاصقة فى سكون أمين صادق، وعدم لا رجعة منه، وهناك على قبوة الشيخ أبى المعاطى الذى لا يؤمه أحد، وقف غراب أسود ينعق فى إلحاح. وعلى بعد خطوات منه كان أبوه يرقد فى قبره وفوقه أحجار وأزمان.
وراح فى شيء ممزوج من الوحشة والخوف يحدق فى بياض القبر، ويقرأ الكلمات التى نقشتها يد فنان القرية فى سذاجة وبلا تزويق. وقرأ الكلمات مرارا، ومع كل حرف كان يستعيد عاما قضاه فى بحبوحة أبيه، ويذرف عقله الذكريات.
كان الرجل طيبا.. عبقريا فى طيبته، والبسمة دائما تضيء وجهه الأسمر المرح، وتنير الطريق أمام الناس إلى إنسانيته. وسبح فى سيال طويل من الذكريات. ولكنه لم يبلغ منتهاه فقد شعر بعاصفة من الشوق تجتاحه.. الشوق إلى ضحكة أبيه العريضة الخالية من الهم، والشوق إلى كل دقيقة عاشها معه. ولم يستطع المقاومة، وارتمى على القبر وطوق جذعه المستدير بذراعه وبكى. وكان وهو يبكى كأنما يعتصر حياته فى دموعه فلا يبقى فيها إلا قشر تافه جاف. وذكرته الدموع وهى تنحدر على وجهه بعرق أبيه، والصيف، وإقباله الباسم عليه، ويديه القويتين حين يضمه وكان حينئذ يقبله ويتحسس ما جاء به إليه فيقبله مرة أخرى. كان كلما تذكر الصيف، وكلما تذكر الشتاء بكى وبكى حتى يخيل إليه أن الدنيا تتسلل من أمامه حاملة كل ما لها وما عليها، تاركة إياهما وحيدين متعانقين!
وعى عما يشغله عن البكاء. كذلك راح يخطط بإصبعه رغما عنه فى تراب الجبانة الذى أمرضته شمس العصر والإنسان حين يبكى يبحث دون ....
وبدأت إصبعه تتعثر فى قطع العظام وتستخرج بقايا شعر آدمى، وتصطدم بالأسنان البشرية التى ابتلعها الرماد. وشغله خاطر جعله يكف عن البكاء تماما.. فهو يستطيع أن يقسم أن هذه العظام ليست لأبيه، فأبوه يرقد من زمن تحت هذا الطين، ولكن.. غدا.. أو بعد غد.. من يدرى؟
ألن تبعثر عظامه وتطفو أسنانه هكذا فوق الأرض؟ وما يدريه أنه لن يستحيل غدا إلى هذا التراب أو هذه الكومة؟ ودار السؤال فى رأسه دورات، وفى كل مرة تزداد حيرته، وتظلم الحدائق
أمامه، وتبعد، حتى بدأ يشك فى القبر الذى يعانقه حين يتأمل فى صوت مرتجف لكنه مسموع:
- حقيقة.. ما الذى أعانقه؟
وجاءه الجواب شاحبا عليلا ميت الروح كشمس العصر..إنه يعانق قبرا من تراب فوق كومة من تراب!
وعز عليه أن تفقده هذه الحقيقة البسيطة كل ما بقى له من أبيه، فسأل نفسه مرة أخرى ليفحمها إفحاما
- وأين قبر أبى إذن؟
ومن بين طيات نفسه برز له خاطر عجيب، فقد أدرك أن أباه هناك.. فى عقله.. فى تلافيف مخه، حيث يستقر القبر الذى يضم حياته ومماته وكل السنين التى قضاها تحت أجنحته. وأما القبور التى تتبعثر أمامه فهى نواتيء جوفاء من أرضنا السمراء.
وعاد إلى القرية فى ذلك اليوم بحقيقة هائلة جديدة».

Thursday, January 01, 2009


رسائل الي ميلينا

==========

عزيزتي ميلينا ،
كتبت لك ملاحظة من براغ ، و بعدها من ميران. لم أحصل على جواب. في الحقيقة الملاحظات لا تحتاج إلى جوابٍ عاجل ، فإذا كان صمتكِ لا يعني سوى إشارة إلى محافظة نسبية - و هذه عادةً ما تعبر عن نفسها في شعورًا بالنفور من الكتابة- فأنا راض تمامًا.
لكنه من الممكن –و لهذا أنا أكتب هذه الرسالة- أن أكون قد أهنتكِ بطريقة ما في ملاحظاتي (يا لها من يدٍ خرقاء التي أملك ، تعاكس كل نواياي ، لا بد أنها كذلك) أو لربما في الحقيقة أسوأ من ذلك ، بأن تكون اللحظة التي تأخذين فيها أنفاسكِ من الذي كنتِ قد كتبته ، قد ولت مجددًا و مرة أخرى وقتًا سيء يجيئكِ.
للاحتمال الأول ، لا أملك شيء لقوله ، إذ أنه من المستبعد لي ، و كل شيء آخر هو أقرب. حول الاحتمال الآخر ، لن أنصح –و كيف لي أن أفعل- لكن ببساطة أسأل : لما لا تخرجين من فيينا لبعض الوقت؟ بعد كل شيء ، أنتِ غير عديمة المأوى مثل الآخرين. أليست رحلة قصيرة إلى بوهيما قد تعطيك بعض النشاط ؟ و ما إذا كنتِ -لسبب لا أعرفه- لا ترغبين بالذهاب إلى بوهيما ، فلما لا تذهبين إلى مكانٍ آخر ، ربما تكون ميران. هل تعرفينها ؟
لذا أتوقع إحدى الأمرين ، إما أن تستمرين في صمتكِ و الذي يعني "لا تقلق أنا بخير". أو لربما بعض الأسطر.
ألطف تحياتي كافكا
لقد حصل لي أنني لا أتمكن من تذكر تفاصيل وجهكِ الدقيقة. فقط كيف خرجتِ من بين طاولات المقهى ، شكلكِ الخارجي ، فستانكِ ، هذه الأشياء أملك تذكرها.



 - كــافكا -