Tuesday, September 14, 2010



الرواية تفكك العالم

ممدوح رزق

=====

لن تستغرق وقتا طويلا حتى تدرك أن ( دوار البحر ) ليست مجرد لافتة مجازية تربط بين الخيوط الدلالية المحرّكة لمغامرة سردية تمتلك الوعي الجمالي والفلسفي الضروري لانتاج رموزها واقتراحاتها الاستفهامية الخاصة ؛ كما أنها أيضا ليست مجرد عنوان مباشر لأسطورة سكندرية مشار إليها في الصفحة 128 من الرواية وتحكي عن بحر الاسكندرية الدائخ بين مد وجزر والذي أصاب بعض الساكنين حوله وبقربه بنفس الدوخة والدوار ؛ حيث يختار البحر طبقا للأسطورة من يورثه دواره من حالمي الأعين والحائرين والمتسائلين والمتسامين مع سحر المعنى والبحر والشروق والغروب والأفق والنهاية والحياة والموت .. ( دوار البحر ) أيضا وعلى المستوى الشكلي هي الطريقة التي كتبت بها الرواية فهي تجسد صراعا مدوخا بين مقاطع قصيرة ذات طبيعة متشظية من التأملات والاقتباسات والحكي المتناثر ويحكمها القلق والخوف بشهوة وحشية مما يجعلها تعيش حالة متعددة المستويات من الفوران الذهني أو فلنقل من ( المد والجزر ) .
لن تستغرق وقتا طويلا أيضا حتى تدرك أن كل مقطع مكثف من الرواية يصلح كمركز للسرد وستدرك أيضا في نفس الوقت أنه لن يكون هناك أي مركز بل ستلمس بوضوح نية الانفلات من أسر المركزية أو بالأحرى تعمد هدم أي مركز محتمل حتى مع يقينك بأن أي مقطع من مقاطع الرواية يصلح كأساس مناسب يمكن تشييد ( دراما ) جيدة عليه وتطويرها وفقا لأي نموذج كلاسيكي للرواية التقليدية ولكن يتم التخلي عن ( هاجس البناء ) المعتاد لصالح لعبة جدلية تورطك في الاستجابة لظنونها ومسايرة ما يمكن فهمه على أنه قواعد لأداءاتها ثم تخطفها منك وتقوم بتفتيتها لتبدأ في خلق تصورات بديلة كي تمنحها إليك لتتعايش معها ثم تأخذ طريقها للذوبان هي الأخرى من جديد .

مدخل الرواية يبدو كباب يقف على عتبته الكاتب ليساعدك على تخطيها وفقا لقناعة ذاتية فرضت هذا الإجراء الذي أراد أن يؤكد لك من خلاله قبل الدخول إلى هذه التجربة الروائية بأنه ـ أي الكاتب ـ لا يواجه مشكلة سواء تم اعتبار العمل رواية أم لا وهذا ما يستدعي في تصوري تساؤلا أراه بديهيا وهو إذا كان الأمر كذلك فما هو السبب الذي يفرض هذا الحرص على تأكيد تلك هذه النقطة تحديدا ولماذا لم يتم تركها لحسابات القاريء الشخصية ؟ أم أن هذا الحرص يكمن وراءه انشغال قبلي من الكاتب بقضية التصنيف مما دفعه للتدخل واللجوء إلى دفاع استباقي يحميه من إقصاء ممكن للعمل عن ( فن الرواية ) خاصة أن الوصف الذي قرر إعطاءه له وأعلنه على الغلاف الخارجي للكتاب هو ( رواية ) ؟! .. عموما وبصرف النظر عن كون الكاتب يشير إلى استيعابه بأن روايته لا تأخذ الشكل الشائع والمعروف للرواية مما يجعله مرنا في قبوله آراء الآخرين حول التصنيف وبصرف النظر أيضا عن أن من أهم مميزات الرواية الجميلة ـ كما أراها ـ هي تنكرها ومخالفتها للأشكال الشائعة والمعروفة فإن أهم ما جاء في هذا المدخل هي طرح فكرة كتابة رواية عبر تجميع قصاصات ورقية مكتوبة على مدار سنوات وارتباط هذه الفكرة بعدم حدوث أمر جديد ـ أيا يكن ما هو ـ يحرّك ( النهر الساكن منذ أمد ) بحسب تعبير الكاتب نفسه والذي يشمل الناس والأقوال والأفكار والأحداث وهو ما يعني بالنسبة لي غياب المعجزة التي تأتي بالحقيقة الأكيدة وما ينتج عنها من فهم كامل وثابت ويقين لا يشوبه نقص أو خلل تجاب معه على كافة التساؤلات والإشكاليات الكونية وبما يضع حدا للألم والحيرة والشك .

سطور ( جاك دريدا ) عن ( الخوف من الكتابة ) والتي تبدأ بها الرواية كانت أشبه برسالة ضمنية من السارد إلى القاريء يريد أن يوثق من خلالها شروط اللقاء المعرفي بينهما أو بشكل أدق ( اللاشروط ) التي سترعى ذلك السياق المفتوح لجميع الاحتمالات والذي لا يجب تأطيره أو تحديد معادلات ملزمة تجبر حسه التأويلي على اتخاذ قرارات حاسمة أو تبني انحيازات سابقة التجهيز ومثقلة بهوية سبق تتبع مساراتها في تناول العالم .. في هذه السطور كتب ( دريدا ) عن المنهج التفكيكي الذي يزلزل استقرار الثوابت أو يسبب قلقا أو يجرح الآخرين كما كتب عن الشعور بالمسئولية الذي يملي عليه أن ما يكتبه هو ما يجب أن يُكتب وأيضا تحدث عن الرعب الذي يجعله في بداية النوم يكون لديه انطباع بأنه ارتكب جريمة ما والذي يختفي عندما يستيقظ ليتخلص من الانتباه والحذر ويفعل ما يجب أن يفعله .

لو وضعنا ( هدم المركز السردي ) و( القصاصات ) و( عدم حدوث أمر جديد يحرّك النهر الساكن منذ أمد ) و( الخوف من الكتابة ) في حالة تشابك هل يصبح لدينا تصور ما عن طبيعة الرواية أو الملامح العامة لها وبالتالي الفضاءات التي ستختبرها ؟ .. ما سنقرأه هو تحقق واضح وفريد في رأيي لأفكار ( دريدا ) حول ( خلخلة الميتافيزيقا ) حيث النص ( مرجعية ذاته ) بفعل تكسير المسلمات الأخلاقية المستندة على المركزيات التي حكمت التراث الميتافيزيقي : ( العقل ) و( الصوت ) و( القضيب ) والمتمثلة في أولوية الحضور والمعنى والروح والطبيعة والتصور ( الأبوي ) عن العالم .. هذا التحقق لا يعتمد على الاستشهاد أو الاقتباس ولا يقف عند حدود استدعاء المنجز الفلسفي ومناقشته بشكل مباشر بل يتجلى بعمق وفي المقام الأول من خلال الحضور السردي نفسه وتفاصيله المراوغة وتقاطعاتها النسقية .

في الجزء الأول من الرواية والذي يحمل عنوان ( هذا هو اسمي ) يقوم الكاتب برسم ما يشبه ( بورتريه ) لنفسه عبر ممارسات وتوظيفات عدة : مقاطع شعرية له ولآخرين كـ ( محمد ابراهيم أبو سنة ) .. سطور نثرية مكثفة .. تساؤلات مجردة .. عرض مقتضب لأفكار ذهنية وخواطر تأملية .. إضاءات لمناطق معينة من الماضي .. اقتباسات من ( لماذا أنا ملحد ) لـ ( اسماعيل أدهم ) و( هكذا تكلم زرادشت ) لـ ( نيتشه ) مع مقارنة عابرة بينه ـ أي ( نيتشه ) ـ و( سارتر ) في ما يسمى بـ ( القلق الوجودي ) و( الهم المعرفي ) وأيضا اقتباس من ( المصادفة والضرورة ) لـ ( جاك مونو ) ثم حكي متقطع عن إنهاء السارد لخدمته كضابط احتياطي في الجيش بأسيوط ورجوعه إلى مدينته الاسكندرية ثم افتتاحه لعيادته التي تأجل افتتاحها أعواما .. ماجعل هذا الحكي متقطعا هي التعرية المستمرة للأرق الباطني للراوي والذي ظل أيضا يتخلل المقاطع الشعرية والسطور النثرية والاقتباسات .. كشفت هذه التعرية عن ( رعب اللامعرفة ) الذي يواجه به الكاتب مشكلات الحرية والجبرية والقضاء والقدر والعدل الإلهي والحقيقة .. هذا ( الرعب ) ـ على عكس ما يبدو ـ لم تؤكده إجابة السارد على سؤال أحد أصدقائه ( انت واصل لحقيقة مريحاك ؟؟ ) فقال له ( أبدا ،،،، أبدا ،،، انت نفسك ممكن تحس بأن كلما الواحد عرف أكثر زادت حيرته وأصبحت الحقيقة كائنا مشوشا ملغزا يبتعد ولا يقرب ) .. هذه الإجابة لم تؤكد الرعب بقدر هذه الفقرة التي تحمل خطابا داخليا من الراوي إلى نفسه : ( أرفض أن أتصور أن كل حياتي مكتوبة قبل ميلادي .. أرفض هذا بشدة .. أوافق أنه ليس للإنسان إلا ماسعى … وأن سعيه سوف يرى … أتفق مع تلك الرؤية … ما قيمتي كإنسان إذا آمنت بأن كل فعل ارتكبه هو من فعل الله وما أنا سوى تجربة مروية سابقا يشاهدها رب عاطل من جديد وهو يحتسي شرابه من فوق عليائه ؟؟ .. ما قيمتي ؟؟ … أتذكر قولة المعتزلة : أن كيف يكتب الله في قرآنه الأزلي تبت يدا أبي لهب وتب قبل أن يولد بملايين السنين ؟؟ …. ألا تقتل تلك الفكرة المترسخة بأعماق مسلمي اليوم صفة العدل الإلهي من أساسها ؟؟ ) .. هذا الخطاب يستمد بشكل كلي طاقته من وعي شرس يدرك معنى الفقدان وما يترتب عليه من نتائج : فقدان الحرية ، وفقدان الإله .. الإيمان بحرية الإرادة الإنسانية وما يترتب عليها من أفعال تحدد القدر والمصير في مواجهة التصور القاسي بأن هذه الإرادة وهذه الأفعال لا قيمة لها وأنها لن تغيّر بأي حال من الأحوال المسار المعد سلفا للحياة والموت ولن تجعل العالم يتعطل عن تنفيذ المشيئة المقررة له في الغيب مما يستوجب تلقائيا الإيمان باستحالة هذا التصور .. الإيمان هنا يوازي الرعب والتوسل العميق من ألا يكون الأمر هكذا فعلا وبالضرورة فالتوسل يستوعب جيدا أن كل الاحتمالات ممكنة .. أما الإيمان بالإله فهو وجود عدل ما ورائي وحكمة لا تترك مجالا للعبث ومن ثم لا تترك مجالا للعدم لأن وجود إله عادل يمتلك الحكمة سيعني عدم ضياع الإنسان وحريته ومصيره ( سعيه سوف يرى ) وبالتالي سيكون للحياة والموت معنى وقيمة مقدسة تستحق من أجلها أن تعاش كافة التجارب مهما كانت مؤلمة ومحيرة ومهما كانت فاقدة القدرة على الإقناع أوعلى تبرير نفسها .. كل هذا في مواجهة التصور القاسي أيضا بأنه لا وجود لإله أو لا وجود لعدل يحمي الإنسان سواء في الدنيا أو بعد الفناء مما يستدعي بديهيا الإيمان باستحالة هذا التصور .. مرة ثانية فالإيمان يوازي الرعب والتوسل الذي يستوعب جيدا أن كل الاحتمالات ممكنة .
علينا أن ننتبه أيضا إلى أن الإيمان بحرية الإرادة يستبعد المسؤلية الأخلاقية للإله تجاه ما يحدث للإنسان حيث يتشارك الفرد في هذه المسؤلية أو يتحمل الجانب القبيح منها بشكل أدق مما يؤكد منطقيا الصورة المثالية لهذا الإله ويحافظ عليها باعتبار أنه دائما منتج للخير أما الإنسان فهو منتج للشر .
أتذكر الآن ( هيدجر ) في محاولته للتوفيق بين طمأنينة الإيمان الديني وقلق ( الدازاين Dasein ) أي الوجود البشري من حيث هو تحديد للكينونة أو الوجود الذي نكونه نحن أنفسنا والذي له بواسطة وجوده من بين أشياء أخرى إمكانية طرح الأسئلة ؛ تحدث ( هيدجر ) عن حسن الجوار بين ( الدازاين ) والوجود قائلا : ( في هذا القرب للوجود من الوجود وفيه وحده يجب أن يتقرر وإلى الأبد، هل ما إذا كان الإله والآلـهة ستظل ممتنعة عن التجلي وكيـف يحصل هذا الامتناع ؛ وهل ما إذا كان الليل سيستمر؛ وهل ما إذا كان نـهار المقدس سيشرق ؛ وكيـف سيكون ذلك الشروق ؛ وهـل ما إذا كان من الممكن لتجلي الإله والآلـهة في هذا الفجر المقـدس أن يبدأ من جديد وكيف ) .. أتصور أن هناك تقاربا كبيرا بين الحالتين .. كلتاهما تزاوجان بين الأمان والجزع وتكشفان عن الكيفية التي يقود بها كلا منهما للآخر تحت وطأة الانتظار الثقيل .

هناك حكاية ذكرها الكاتب في الجزء الأول من الرواية أجدني في حاجة لتثبيتها هنا دون تحليل لأنني سأعود إليها فيما بعد :
( جبل سحابة وجبل ظرافة .. هي جبال يحتل سفحها كتائب للجيش ولتوصيل المياه إلى أفراد الكتائب القاطنين فيها ، كان الحمار هو الوسيلة المثالية للصعود لسفح الجبل نطرا لانخفاض كفاءة عربات الجيش المضعضعة وعدم قدرتها على اعتلاء السفح الجبلي .. فكان الحمار المسكين هو الضحية .. كل يوم ينزل الصول ( عمر ) مع الحمار المنكوب الساعة السادسة صباحا ليحصل على حصته من المياه من مستودع ما للمياه ويحملها على ظهر الحمار ويقفل راجعا إلى أن يصل إلى بداية السفح الجبلي ، والعرق قد بلل ثيابه وجسده السمين ليمتطي الحمار الذي سبق وحمل الماء .. المطلوب الآن أن يصعد الحمار عبر السفح المنحدر إلى الكتيبة عبر مدق صاعد طوله ثلاثة كيلومترات حاملا الماء والصول ( عمر ) كالفيل الذي يمتطي فأرا .. وعبر سنوات الخدمة ظل الحمار صابرا محتسبا لعمله إلى أن جاء صباح يوم كئيب والحمار يحمل الماء والصول السمين في رحلة الرجوع الأليمة .. يعشى الصول ( عمر ) النعاس مع التعب اعتمادا على حفظ الحمار للطريق .. يقف الحمار لوهلات ربما ليلتقط أنفاسه .. ترتعش أذناه الطويلتين لتكادا تقتربان من لمس بعضهما البعض .. إنها بشائر رياح الشتاء حيث يقل مجهود العمل بفعل برودة الجو .. يتحرك الحمار خارجا عن طريق المدق وكأنما أمر قد أتاه بالتحرك في ذلك الاتجاه من قائد مجهول .. يرى جرف الجبل يقترب ولكنه يستمر في مواصلة الهرولة .. يسرع الحمار في طريقه نحو جرف الجبل ليستيقظ ( عمر ) والحمار على بعد خطوات قليلة من الجرف .. لا تكاد الكلمات تخرج من حنجرته ويكون الحمار قد طار قافزا نحو الهاوية ) .

في الجزء الثاني من الرواية والذي يحمل عنوان ( لماذا أنا ،،،، ؟ ) سنتعرف على ( عبد الرحمن ) العامل الفني في شركة كهرباء الاسكندرية والذي فقد زوجته وطفله في حريق قطار الصعيد الشهير .. ( عبد الرحمن ) سيتعرض لحالة تصادم بينما يسير تائها نتيجة ما حدث له وسيأخذه أحد المارة إلى عيادة السارد .. لن تتوقف ( المصادفة ) عند هذا الحد بل سيذكر الراوي / الطبيب كيف رأى في عيني ( عبد الرحمن ) كاميرا سجلت ملايين الأحداث تجمع بين اليومية العادية والأخرى التي ليست عادية .. هل وجد الكاتب حياته وذاته داخل هذا العالم الكامن في هاتين العينين ؟ .. هل قصدت المصادفة ـ لإدراكها بما يعييشه السارد من قلق ـ أن ترسل إليه خبرة تليق به كي يتفحص نفسه من خلالها وتساهم في تعميق أسئلته بواسطة تجاربها والتي ستسعى في المقابل للتوحد مع هذه الأسئلة لتصير جزءا منها ؟ .. ستزداد هذه الاستفهامات حساسية وتوهجا حينما نعرف أن ( عبد الرحمن ) هو حفيد ( اسماعيل أدهم ) صاحب كتاب ( لماذا أنا ملحد ؟ ) والذي كان يدعوه جد السارد بـ ( ابن الكلب ) وهو الذي لم يقرأ الكتاب وإنما كان يدافع بشدة عن حقيقة إيمانه بوجود الله وينتقد بشدة أي آراء إلحادية ولكنه في أعوامه الأخيرة وحينما غزته الشيخوخة بأمراضها وازدادت عليه أعراض الزهايمر تملكته تخاريف غير مألوفة أخذت منحى إلحادي فراح يهدم المقدسات في أحاديثه مع حفيده / الراوي ويحكي قصصا وأحلاما غريبة .. نحن إزاء حفيدين إذا يحمل كلا منهما ميراثا متشابها مهمها اختلفت تفاصيله ولدى كلا منهما واقعا يتجلى فيه هذا الميراث بعنف وكان على هذا اللقاء أن يحدث بينهما كأن ثمة روح كونية مجهولة تدبر بشكل خفي هذا الانجذاب عبر الزمن بين الأرواح التي تنتمي لسلالة تختزن هما ماضويا واحدا حتى لو أخذ هذا الاختزان طبائع متباينة وحتى لو اتخذت أشكال وجوده الآنية مظاهر متنوعة .. أيضا تدل صدفة اللقاء هذه بين الحفيدين على تحول العالم في لحظة معينة وبكيفية غامضة إلى لعبة مرايا وحشية يمكن للواحد فيها أن يرى نفسه عبر الآخر كي يتفحص كيانا باطنيا يخصه ويجسد أمام عينيه انشغالاته وهواجسه في صورة إنسان آخر يبادله نفس التجسد ونفس التفحص .. هل هذا يجعلنا نفكر دائما في ماذا تعني ( المصادفة ) ؟ .. أعتقد أن هذا السؤال ( ضرورة ) من ضروريات الرواية التي يهمني التأكيد أيضا على أنها نابعة من ( مبدأ عدم اليقين ) الذي حدثنا عنه ( آلان روب غرييه ) حيث أن الذي يتكلم ليس هو الله باعتبار العالم مفهوما ويمكن تفسيره مثلما فعل ( بلزاك ) مثلا وإنما الذي يتكلم هو كائن بشري لم يفهم العالم مثلما فعل ( ألبير كامي ) في ( الغريب ) ومثلما فعل ( أيمن الجندي ) في ( دوار البحر ) .

كان هناك حرص واضح من الكاتب على تمرير القلق وتفعيله ومن ثم الكشف عن الوجود المتعدد للعنته الحميمية الخاصة باستخدام كافة الأشكال الأدبية والفنية : الشعر .. الموسيقى .. الفن التشكيلي كأنما كانت فكرة ( البانوراما ) أو النظرة الشاملة تمثل هاجسا ملحا في أعماقه دفعه للسعي نحو الإحاطة بمجالات الفن المختلفة لزرع هذا التزاوج الثري بين السرد والفلسفة وعلم النفس وتطويره لإعطاء حالة جمالية لم تستفد منها الرواية فحسب بل في تصوري أنها أضافت الكثير لأفكارنا عن فن الرواية بشكل عام وما يمكن أن يكون جديرا به من تنويعات معرفية مختلفة.

( عشق الموت .. أخشى هذا .. بالفعل تراودني تلك الأيام ميول انتحارية .. يقولون إن علاج تلك الحالة بالجلوس أمام المرآة في ضوء خافت لفترات طويلة .. هراء .. محض هراء )
الآن جاء الوقت الذي عليّ أن أعود فيه إلى قصة انتحار الحمار التي قمت بتثبيتها سابقا دون تحليل .. أي جبل يصعده الراوي وينزله كل يوم ؟! .. ما هو الثقل الهائل الذي يحمله ؟! .. ماذا سيجد لو قرر أن يطير قافزا نحو الهاوية ؟! .

* * *

أخبار الأدب
22 / 8 / 2010

Monday, April 12, 2010



من رواية .... أعترافات قناع

للأديب الياياني .... يوكيو ميشيما

ترجمة : كامل يوسف حسين

======


كانت تلك هي المرة الأولي التي أشاهد فيها هذه الكتب ، كان أبي شحيح اليد ، لكراهيته لتلويث الصور وتلطيخها بيد الأطفال . وكذلك لخشيته من أن صور النسوة العاريات التي أبدعها الفنانون العباقرة قد تستهويني - لشد ما جانبه الصواب !... شرعت في تقليب الصفحات وصولا إلي نهاية أحد المجلدات . فجأة أطلت من ركن الصفحة التالية صورة اضطررت للأعتقاد بأنها كانت هناك راقدة في انتظاري .... كانت صورة للوحة للقديس سباستيان للمصور جيدو .... تبدي الصورة شجرة الأعدام الأسود المائل قليلا في خلفية هائلة من غابة كابية وسماء مغيبة ونائية ، قيد الشاب بادي الوسامة عاريا الي جذع الشجرة والغطاء الوحيد الذي يستره هو قطعة بيضاء من نسيج خشن عقدت حول خاصرته ....خمنت ان الصورة تصور حتما استشهاد احد المسيحين ولكن هذه اللوحة التي تصور موت قديس مسيحي كانت تحمل النكهة القوية للنزعة الوثنية . كان جسد الشاب لا يفصح عن أي من آثار العناء التبشيري المألوفة في صور القديسين الآخرين .... كانت هناك فقط ميعة الشباب وامتداد النور والبهاء والفرح .... كان عريه الأشيب ، الذي لا نظير له ، يتألق مباينا الخلفية الغائبة . ذراعاه الرجوليان ، ذراعا رجل الحرس البريتوري الذي اعتاد ثني النشاب وتقلد السيف مرفوعتان في زاوية رشيقة ، رسغاه المقيدان متصالبان فوق رأسه مباشرة ، وجهه مرتفع هونا ، عيناه مفتوحتان علي أتساعهما ، تحدقان بهدوء عميق في مجد السماوات . لم يكن الموت هو الذي يحوم حول صدره المتوتر ومعدته الحادة في انكماشها و ردفيه اللذين التويا من الألم قليلاً ، وإنما وهج من الفرح الكابي كالموسيقي ، ولولا السهام الغائصة برؤسها عميقا في إبطه الأيسر وجانبه الأيمن لبدأ أقرب شبهاً إلي رياضي روماني ، ينال قسطاً من الراحة بعد العناء ، وقد استند إلي شجرة غسقية في إحدي الحدائق .

كانت الأسهم تلتهم اللحم الفائر ، العطر ، الذي يضوع شباباً ، وتوشك أن تستنفد الجثمان من داخله بألسنة من لهب معاناة ونشوة فائقين ، لكن الدم لم يكن يشجب ، ولم يكن هناك ذلك الفيض من السهام الذي يُري في اللوحات الأخري لاستشهاد سباستيان ، وبدلاً من ذلك كان سهمان وحيدان يلقيان ظليهما الهادئين الرشيقين علي رهافة جلده ، مثلما ظلي غصن يسقطان علي ممر مرمري .

لكن كل هذه التفسيرات والملاحظات وردت فيما بعد .

في ذلك اليوم ، ما تطلعت إلي الصورة ، حتي أرتعش كياني كله بفرحة طاغية ، طفا دمي عالياً ، انتفخت خاصرتي كأنما غضباً ، كان الجانب الوحشي فيًّ ، الذي غدا علي وشك الانفجار ، ينتظر استخدامي له في اتقاد لم يسبق له مثيل ، وهو يوبخني لجهلي ، لاهثا في غضب ، شرعت يداي في غياب كامل للوعي تأتيان حركة لم تعلماها من قبل قط ، أحسست بشيء سري مشع ينهض مسرع القدمين ليشن هجوماً من داخلي ، فجأة تفجر مندفعاً ، جالباً معه عربدة داخلية تحجب الرؤية ...

إنقضي بعض الوقت ، عندئذ تطلعت بمشاعر بائسة حول المكتب الذي كنت أجلس أمامه ، كانت شجرة قبقب خارج النافذة تلقي ظلاً خفيفاً فوق كل شيء ، فوق المحبرة ، كتبي المدرسية ، دفاتري ، القاموس ، صورة القديس سباستيان . انتثرت بقع بيضاء غائمة ، علي عنوان المرجع الذهبي الحروف ، علي جانب المحبرة ، علي ركن القاموس ، إنسابت بعض القطرات كسلي ، متثاقلة ، والتمع البعض الآخر علي نحو كئيب ، مثل عيني سمكة ميتة ، لحسن الحظ حمت حركة منعكسة من يدي الصورة ، وانقذت الكاب من التلوث

كانت المرة الأولي التي أقذف فيها ، وكذلك البداية المرتبكة وغير المقصودة بالمرة لعادتي السيئة

يقال تقليدياً إن القديس سباستيان ولد في حوالي منتصف القرن الثالث للميلاد ، غدا قائداً في الحرس البريتوري ، وأنهي حياته القصيرة ذات الثلاثين عاما من الغرابة بالاستشهاد ، ويقال أنه مات في عام 288 خلال حكم الإمبراطور ديوقليانوس . كان ديوقليانوس رجلاً عصامياً ، عرك الحياة ، وحظي بالإعجاب لنزعته لعمل الخير ، لكن مكسيميان شريك الأمبراطور كان يمقت المسيحية ،وحكم بالأعدام علي مكسيميليانوس الشاب النوميري لرفضه باسم النزعة السلمية المسيحية إداء مقتضيات الخدمة العسكرية ، وبالمثل جري أعدام مارسيلوس القنطوري للولاء الديني ذاته . كانت تلك إذن الخلفية التي في ضوئها يصبح استشهاد القديس سباستيان أمراً قابلاً للفهم

اعتنق سباستيان المسيحية سراً ، واستغل موقعه كقائد في الحرس البريتوري لمواساة المسيحين المودعين بالسجون ، وأدخل العديد من الرومان في الدين الجديد ، ومن بينهم عمدة روما . وحينما افتضح أمر هذه الانشطة حكم عليه بالموت ، رشق بسهام لا حصر لها ، وترك ليلفظ أنفاسه ، لكن أرملة ورعة كانت قد أقبلت لتواريه التراب ، اكتشفت أن بدنه لا يزال دافئاً ، فعالجته حتي دلف عائداً إلي الحياة غير أنه تحدي علي الفور الإمبراطور مسفهاً إلهته ، وفي هذه المرة ضرب بالهراوات حتي الموت

قد تكون الخطوط العريضة لهذه الاسطورة صحيحة حقاً ، فمن المعروف يقيناً أن مثل أحداث الاستشهاد هذه قد وقعت حقاً ، أما فيما يتعلق بالتشكك في أنه مامن إنسان يمكن أن يصاب بمثل هذا العدد الكبير من جراح السهام ثم يرد إلي الحياة إلا يمكن أن يكون ذلك من قبيل الإضافة البديعة اللاحقة واستخداما لموضوعة البعث استجابة لتلهف البشرية للمعجزات ؟

ولرغبتي في أن أتفهم نشوتي بين يدي الأسطورة ، أمام اللوحة ، بمزيد من الوضوح باعتبارها الشيء الحسي الوحشي الذي كانت عليه ، فإنني أثبت هنا المقطوعة التالية التي لم تنته والتي دبجتها بعد ذلك بسنوات : القديس سباستيان - قصدية نثرية

ذات مرة ، اختلست النظر من نافذة قاعة للدرس إلي شجرة تتمايل في مهب الريح ، فيما كنت أتطلع إليها ، شرع قلبي يخفق راعداً ، كانت شجرة ذات بهاء مذهل ، تنتصب فوق المرجة في زاوية قائمة ، تلفها الاستدراة ، يستند الشعور بخضرتها الفاعمة إلي أغصانها العديدة المتماوجة عالياً والمنسدلة علي الجوانب في اتساق متوازن لا يحظي به إلا حامل شموع متعدد الأفرع ، وتحت اخضرارها يبرز جذع قوي مثل قاعدة أبنوسية . شمخت هناك ،تلك الشجرة ، مكتملة ، رائعة البدن ، من غير أن تفقد شيئاً من رشاقة الطبيعة وعفويتها ، ملتزمة صمتاً جليلاً ، كأنها خلقت نفسها ، ربما كانت قطعة موسيقية ، قطعة من موسيقي الحجرة وضعها موسيقار ألماني ، موسيقي تبعث نشوة دينية هادئة ، حتي إنا لا يمكن إلا ان توصف بأنها قدسية تحفل بالجلال وبالحنين ، اللذين نجدهما في أماط سجاد الحائط الرائع

هكذا كان التماثل بين شكل الشجرة وأصوات الموسيقي معني بالنسبة لي ، لا عجب إذن في أنهما حينما هاجماني ، معا وقد تزايدت قوتهما من جراء هذا التحالف ، غدا انفعالي الغامض المستعصي علي الوصف أقرب لا إلي الغنائية وإنما إلي ذلك الخمار الرهيب الذي نجده في تزاوج الدين والموسيقي

فجأة تساءلت في قرارة نفسي : " أليست تلك هي الشجرة ذاتها ؟ ... الشجرة التي قيد إليها ويداه مغلولتان خلفه ، علي جذعها سال دمه مثل قطرات غبالمطر ؟ أليست تلك هي الشجرة الرومانية التي احتضر فوقها متوهجاً في عناء الموت الأخير مع التفتت العنيف للحمه الغض علي اللحاء كأعترافه الأخير بالمتعة الدنيوية بأسرها و الألم الحاضر جميعه ؟

Thursday, January 21, 2010

هوكوساي


هوكيه
============
فضح النزعة الواقعية

أوسكار وايلد

ترجمة :علي جازو
============

حقيقة , وعلي كل حال ، إن ما تعطينا إياه الفنون علي المحاكاة ، ليس سوي أساليب متنوعة ، أو هي مدارس محددة ، لفنانين معينين . من المؤكد انك لا تتخيل اناس العصور الوسطي قد حملوا أي تشابه مع الشخوص الموجودة علي لوحات الزجاج الملون ، أو علي الخشب و الحجارة ، أو أعمال المعادن ، أو علي الأقمشة المطرزة برسوم مزينة . من المحتمل أنهم كانوا ذوي مظهر عادي ، بلا أي روعة ، بلا اي تشويه أو منظر لافت . في العصور الوسطي ، كما عرفناهم عبر الفنون ، كان ثمة نمط محدد وبسيط . ما من سبب لنعرف لمَ أن فنانين بهذا الاسلوب لم يظهروا في القرن التاسع عشر . حقاً . ما من فنان كبير أبداً ، يري الأشياء كما رآها اولئك القدماء . وإذا وجد أحدهم ، أو رأي ، فسيتوقف عن أن يكون فناناً ! خذ مثالاً من ايامنا هذه . أري إذا ما كنت مغرماً باالأشياء اليابانية ، هل يمكن فعلاً تخيل أي وجود للشعب الياباني كما قدم لنا عبر فن الرسم ؟! إذا تصورت ذلك ، فهذا لأنك لم تعِ بعد الفن الياباني . الشعب الياباني متأن ، واع بذاته ، إزاء إبداعات فنانين مميزين . إذا وضعت لوحة لهوكوساي أو لهوكيه او أي واحد من كبار رسامي البلد الاصليين ، أمام سيد أو سيدة يابانية متحضرة ، فستدرك انه لا وجود حتي لأقل تشابه بينهم . الناس الواقعيون ، اولئك الذين يعيشون في اليابان ، غير مختلفين عن عموم الشعب الانجليزي. وهذا يفيد ان عامة الانجليز لا يثيرون الفضول عادة وما من شيء استثنائي لديهم . في الحقيقة اليابان كلها ابتكار خالص . لا وجود لبلاد مثلها ، ولا أناس مثل هؤلاء اليابانيين



أحد فنانينا ، من بين الثلاث الاكثر سحراً لدينا ، ذهب مؤخراً الي بلاد الاقحوان ، يحدوه امل غبي في العثور علي الياباني هناك ، كل ما رآه ، كل ما سنحت له فرصة رسمه ، لم يكن سوي حفنة فوانيس وأصص . لم يكن لديه القدرة علي أكتشاف السكان . صالة دودزيل عرضت أعمالاً جيدة للغاية . لكنه لم يعرف ان لدي اليابانيين ، كما قلت ، نمط أسلوبي بسيط ، متانق ومحباً للفن . إذا كنت ترغب معرفة التأثير الياباني ، فلا تتصرف مثل سائح وتذهب إلي طوكيو . علي العكس ، ستمكث في المنزل ، وتتشرب أعمال بعض الرسامين اليابانيين ، وبعد ان تكون قد تشبعت بروحية اسلوبهم ، وحللت في رؤاهم البارعة ، ستذهب ، عصر أحد الايام ، وتجلس في المنتزة ، أو تتجول في البيكاديللي ، وإن لم تتمكن من رؤية التأثير الياباني هناك فلن تعثر عليه في أي مكان


خذ عندك حالة أخري : اللغة الاغريقة القديمة . هل تعتقد أن الفن اليوناني القديم يخبرنا كيف كان يبدو الشعب الاغريقي ؟ هل تصدق بان نساء أثينا كن يظهرن بمثل الاشكال الوقورة المهيبة لإفريز الباثينيون ، او مثل تلك الارباب العظيمة التي جلست في الواجهات المثلثية لنفس المبني ؟ إذا حكمت من خلال الفن فقد كُن بالتاكيد كذلك . لكن اقرأ مرجعاً ، أرسطوفانيس مثلاً ، فستجد نساء أثينا قد رُبطن باحكام ، لابسات أحذية ذات نعال عالية ، ملونات شعورهن بالأصفر ، وصابغات وجوهن بالأحمر ، غير مختلفات في ذلك أبدأً عن الموضة السخيفة ، أو أي امريء مُنحل من أيامنا هذه . في الحقيقة ، وبشكل كلي ، إذا ما عدنا بالنظر إلي العصور الماضية ، فقط من خلال الوسط الفني ، ومن خلال الفن لا غير، فإننا لحسن الحظ لن نخبر بالحقيقة أبداً