Monday, April 12, 2010



من رواية .... أعترافات قناع

للأديب الياياني .... يوكيو ميشيما

ترجمة : كامل يوسف حسين

======


كانت تلك هي المرة الأولي التي أشاهد فيها هذه الكتب ، كان أبي شحيح اليد ، لكراهيته لتلويث الصور وتلطيخها بيد الأطفال . وكذلك لخشيته من أن صور النسوة العاريات التي أبدعها الفنانون العباقرة قد تستهويني - لشد ما جانبه الصواب !... شرعت في تقليب الصفحات وصولا إلي نهاية أحد المجلدات . فجأة أطلت من ركن الصفحة التالية صورة اضطررت للأعتقاد بأنها كانت هناك راقدة في انتظاري .... كانت صورة للوحة للقديس سباستيان للمصور جيدو .... تبدي الصورة شجرة الأعدام الأسود المائل قليلا في خلفية هائلة من غابة كابية وسماء مغيبة ونائية ، قيد الشاب بادي الوسامة عاريا الي جذع الشجرة والغطاء الوحيد الذي يستره هو قطعة بيضاء من نسيج خشن عقدت حول خاصرته ....خمنت ان الصورة تصور حتما استشهاد احد المسيحين ولكن هذه اللوحة التي تصور موت قديس مسيحي كانت تحمل النكهة القوية للنزعة الوثنية . كان جسد الشاب لا يفصح عن أي من آثار العناء التبشيري المألوفة في صور القديسين الآخرين .... كانت هناك فقط ميعة الشباب وامتداد النور والبهاء والفرح .... كان عريه الأشيب ، الذي لا نظير له ، يتألق مباينا الخلفية الغائبة . ذراعاه الرجوليان ، ذراعا رجل الحرس البريتوري الذي اعتاد ثني النشاب وتقلد السيف مرفوعتان في زاوية رشيقة ، رسغاه المقيدان متصالبان فوق رأسه مباشرة ، وجهه مرتفع هونا ، عيناه مفتوحتان علي أتساعهما ، تحدقان بهدوء عميق في مجد السماوات . لم يكن الموت هو الذي يحوم حول صدره المتوتر ومعدته الحادة في انكماشها و ردفيه اللذين التويا من الألم قليلاً ، وإنما وهج من الفرح الكابي كالموسيقي ، ولولا السهام الغائصة برؤسها عميقا في إبطه الأيسر وجانبه الأيمن لبدأ أقرب شبهاً إلي رياضي روماني ، ينال قسطاً من الراحة بعد العناء ، وقد استند إلي شجرة غسقية في إحدي الحدائق .

كانت الأسهم تلتهم اللحم الفائر ، العطر ، الذي يضوع شباباً ، وتوشك أن تستنفد الجثمان من داخله بألسنة من لهب معاناة ونشوة فائقين ، لكن الدم لم يكن يشجب ، ولم يكن هناك ذلك الفيض من السهام الذي يُري في اللوحات الأخري لاستشهاد سباستيان ، وبدلاً من ذلك كان سهمان وحيدان يلقيان ظليهما الهادئين الرشيقين علي رهافة جلده ، مثلما ظلي غصن يسقطان علي ممر مرمري .

لكن كل هذه التفسيرات والملاحظات وردت فيما بعد .

في ذلك اليوم ، ما تطلعت إلي الصورة ، حتي أرتعش كياني كله بفرحة طاغية ، طفا دمي عالياً ، انتفخت خاصرتي كأنما غضباً ، كان الجانب الوحشي فيًّ ، الذي غدا علي وشك الانفجار ، ينتظر استخدامي له في اتقاد لم يسبق له مثيل ، وهو يوبخني لجهلي ، لاهثا في غضب ، شرعت يداي في غياب كامل للوعي تأتيان حركة لم تعلماها من قبل قط ، أحسست بشيء سري مشع ينهض مسرع القدمين ليشن هجوماً من داخلي ، فجأة تفجر مندفعاً ، جالباً معه عربدة داخلية تحجب الرؤية ...

إنقضي بعض الوقت ، عندئذ تطلعت بمشاعر بائسة حول المكتب الذي كنت أجلس أمامه ، كانت شجرة قبقب خارج النافذة تلقي ظلاً خفيفاً فوق كل شيء ، فوق المحبرة ، كتبي المدرسية ، دفاتري ، القاموس ، صورة القديس سباستيان . انتثرت بقع بيضاء غائمة ، علي عنوان المرجع الذهبي الحروف ، علي جانب المحبرة ، علي ركن القاموس ، إنسابت بعض القطرات كسلي ، متثاقلة ، والتمع البعض الآخر علي نحو كئيب ، مثل عيني سمكة ميتة ، لحسن الحظ حمت حركة منعكسة من يدي الصورة ، وانقذت الكاب من التلوث

كانت المرة الأولي التي أقذف فيها ، وكذلك البداية المرتبكة وغير المقصودة بالمرة لعادتي السيئة

يقال تقليدياً إن القديس سباستيان ولد في حوالي منتصف القرن الثالث للميلاد ، غدا قائداً في الحرس البريتوري ، وأنهي حياته القصيرة ذات الثلاثين عاما من الغرابة بالاستشهاد ، ويقال أنه مات في عام 288 خلال حكم الإمبراطور ديوقليانوس . كان ديوقليانوس رجلاً عصامياً ، عرك الحياة ، وحظي بالإعجاب لنزعته لعمل الخير ، لكن مكسيميان شريك الأمبراطور كان يمقت المسيحية ،وحكم بالأعدام علي مكسيميليانوس الشاب النوميري لرفضه باسم النزعة السلمية المسيحية إداء مقتضيات الخدمة العسكرية ، وبالمثل جري أعدام مارسيلوس القنطوري للولاء الديني ذاته . كانت تلك إذن الخلفية التي في ضوئها يصبح استشهاد القديس سباستيان أمراً قابلاً للفهم

اعتنق سباستيان المسيحية سراً ، واستغل موقعه كقائد في الحرس البريتوري لمواساة المسيحين المودعين بالسجون ، وأدخل العديد من الرومان في الدين الجديد ، ومن بينهم عمدة روما . وحينما افتضح أمر هذه الانشطة حكم عليه بالموت ، رشق بسهام لا حصر لها ، وترك ليلفظ أنفاسه ، لكن أرملة ورعة كانت قد أقبلت لتواريه التراب ، اكتشفت أن بدنه لا يزال دافئاً ، فعالجته حتي دلف عائداً إلي الحياة غير أنه تحدي علي الفور الإمبراطور مسفهاً إلهته ، وفي هذه المرة ضرب بالهراوات حتي الموت

قد تكون الخطوط العريضة لهذه الاسطورة صحيحة حقاً ، فمن المعروف يقيناً أن مثل أحداث الاستشهاد هذه قد وقعت حقاً ، أما فيما يتعلق بالتشكك في أنه مامن إنسان يمكن أن يصاب بمثل هذا العدد الكبير من جراح السهام ثم يرد إلي الحياة إلا يمكن أن يكون ذلك من قبيل الإضافة البديعة اللاحقة واستخداما لموضوعة البعث استجابة لتلهف البشرية للمعجزات ؟

ولرغبتي في أن أتفهم نشوتي بين يدي الأسطورة ، أمام اللوحة ، بمزيد من الوضوح باعتبارها الشيء الحسي الوحشي الذي كانت عليه ، فإنني أثبت هنا المقطوعة التالية التي لم تنته والتي دبجتها بعد ذلك بسنوات : القديس سباستيان - قصدية نثرية

ذات مرة ، اختلست النظر من نافذة قاعة للدرس إلي شجرة تتمايل في مهب الريح ، فيما كنت أتطلع إليها ، شرع قلبي يخفق راعداً ، كانت شجرة ذات بهاء مذهل ، تنتصب فوق المرجة في زاوية قائمة ، تلفها الاستدراة ، يستند الشعور بخضرتها الفاعمة إلي أغصانها العديدة المتماوجة عالياً والمنسدلة علي الجوانب في اتساق متوازن لا يحظي به إلا حامل شموع متعدد الأفرع ، وتحت اخضرارها يبرز جذع قوي مثل قاعدة أبنوسية . شمخت هناك ،تلك الشجرة ، مكتملة ، رائعة البدن ، من غير أن تفقد شيئاً من رشاقة الطبيعة وعفويتها ، ملتزمة صمتاً جليلاً ، كأنها خلقت نفسها ، ربما كانت قطعة موسيقية ، قطعة من موسيقي الحجرة وضعها موسيقار ألماني ، موسيقي تبعث نشوة دينية هادئة ، حتي إنا لا يمكن إلا ان توصف بأنها قدسية تحفل بالجلال وبالحنين ، اللذين نجدهما في أماط سجاد الحائط الرائع

هكذا كان التماثل بين شكل الشجرة وأصوات الموسيقي معني بالنسبة لي ، لا عجب إذن في أنهما حينما هاجماني ، معا وقد تزايدت قوتهما من جراء هذا التحالف ، غدا انفعالي الغامض المستعصي علي الوصف أقرب لا إلي الغنائية وإنما إلي ذلك الخمار الرهيب الذي نجده في تزاوج الدين والموسيقي

فجأة تساءلت في قرارة نفسي : " أليست تلك هي الشجرة ذاتها ؟ ... الشجرة التي قيد إليها ويداه مغلولتان خلفه ، علي جذعها سال دمه مثل قطرات غبالمطر ؟ أليست تلك هي الشجرة الرومانية التي احتضر فوقها متوهجاً في عناء الموت الأخير مع التفتت العنيف للحمه الغض علي اللحاء كأعترافه الأخير بالمتعة الدنيوية بأسرها و الألم الحاضر جميعه ؟