Friday, November 28, 2008

الغريب

- مَن تحب أكثر، أيها الإنسان اللغز، قل؟ أباك، أمك، أختك، أم أخاك؟
- ليس لي أب، ولا أم، ولا أخت، ولا أخ.
- أصدقاءك؟
- أنت تستعمل كلامًا لا يزال معناه حتى اليوم خافيًا عنِّي.
- وطنك؟
- أجهل في أيِّ خطِّ عرض يقع.
- الجمال؟
- أحببته بطيبة خاطر، إلهًا وخالدًا.
- الذهب؟
- أكرهه كما تكره أنت الله.
- إذًا، ماذا تحب، أيها الغريب العجيب؟
- أحب الغيوم... الغيوم العابرة... هناك... الغيوم الرائعة!
بودلير
* * *
لكلٍّ سرابُه

تحت سماء شاسعة رمادية، في سهل أغبر رحيب، بلا دروب، بلا عشب، ولا شوك، أو قرَّاص، التقيت كثيرين من الناس كانوا يسعون منحني الظهور.
كلٌّ كان يحمل على ظهره سرابه الهائل، كأنه كيس طحين ثقيل، أو كيس فحم، أو عُدَّة جندي روماني.
لكن هذا الحيوان المرعب لم يكن ثقلاً جامدًا؛ بالعكس، كان يحيط به، ويضغط عليه بعضلاته المطاطية والقوية؛ ويتعلق بصدر مطيَّته بمخلبيه العريضين، ورأسه الخرافي يعلو جبين الإنسان، كتلك الخُوَذ المخيفة التي كان المحاربون القدماء يأملون أن يخيفوا بها العدو.
وسألت أحد هؤلاء الناس: إلى أين ذاهب؟ أجاب بأنه لا يعرف، لا هو ولا الآخرون، لكنهم أكيدًا كانوا يتجهون إلى مكان ما، لأنهم كانت تدفعهم حاجةٌ لا تُقهَر إلى السير قُدُمًا.
إنه لأمر عجيب جدير بالملاحظة: لم يكن أيٌّ من هؤلاء المسافرين يبدو ساخطًا على هذا الحيوان المتعلق بعنقه والمتشبث بظهره، بحيث يُخيَّل إليك أنه يعتبره جزءًا منه. تلك الوجوه المتعَبة والرصينة كلها، لم تكن تُظهِر أيَّ يأس، تحت قبة السماء الكئيبة، وبأقدام غائصة في تراب أرض مغمومة كما السماء كانت تسير بملامح مستسلمة كأولئك المحكومين بالأمل إلى الأبد.
ومرَّ الموكب بقربي، وغاب في مدى الأفق، حيث سطح الكرة الأرضية المستدير يتوارى عن فضول النظر البشري.
حاولت لبضع ثوانٍ أن أتفهم هذا السر، لكنْ سرعان ما أطبقت عليَّ اللامبالاة اللاتُقهَر، حيث أحسست كأني مثقل بشكل فظيع، أكثر مما كان أولئك المثقلون بسراباتهم الساحقة.
بودلير
* * *
بوهيميتي
كنت أتمشى ويداي في جيبيّ المهترئين
معطفي هو الآخر صار مثالياً
تحت السماء يا ربة الشعر أسير مخلصاً لكِ
وآهٍٍ آه . كم من حب رائع به حلمتُ
.سروالي الوحيد به ثقب هائل
كنت في جولاتي مثل الصغير الحالم "عقلة الأصبع"
أفرفط القوافي ، وكان مقامي في " الدب الأكبر"
وكان لنجوم سمائي حفيف جميل
طالما أصغيت إلى حفيفها
وأنا جالس على حافة الطريق
في تلك الأماسي من سبتمبر
كنت أستشعرقطرات الندى على جبيني كخمر العافية
في الظلال الوهمية كنت أنظم أشعاري
أما قيثاري: فكنت أجذب شيئا طريا من حذائي الجريح
وأتكئ بقدمي على قلبي
...
أرتور رامبو
* * *
أوفيليا
على الموجة الهادئة السوداء حيث تنام النجوم
تطفو أوفيليا البيضاء كزنبقة كبيرة
تتماوج ببطء شديد وهي في غلالتها الفضفاضة
تُسمع في الغابات القصية صيحات هجومية
وهكذا تمر أكثر من ألف سنة على الحزينة أوفيليا
وهي شبح أبيض فوق صفحة النهر الأسود الكبير
أكثر من ألف سنة وجنونها الجميل
يهمس بحكايتها إلى أنسام المساء
تقبل الرياح صدرها، وتبسط - على هيئة تويجات-
غلالتها الرقيقة المتناثرة باسترخاء على صفحة الماء
يبكي الصفصاف المرتعش على كتفها
وعلى جبينها العريض الحالم تسجد أعواد القصب
آه يا أوفيليا الشاحبة الجميلة كالبَرَد
أجل قضيتِ يا صغيرتي حيث جرفكِ النهر
والرياح الهابطة من مرتفعات النرويج العالية
كانت قد حدثتكِ- هامساً- عن الحرية اللاذعة
السماء الحب الحرية: يا له من عام أيتها المجنونة البائسة
إنكِ تذوبين فيه كما تذوب الثلجة في النار
وأوهامك الكبار كانت تخنق صوتك
واللانهائي المخيف كان يرعب عينيكِ الزرقاوين
أرتور رامبو

No comments: