التنوير والعقل الدوجماتي
dogmatism
الدوجماتية : الاعتقاد الجازم واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق
والدوجماطيقة ليست مذهبا فلسفيا أو دينيا، وإنما هي –في أكثر معانيها انتشارا- سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، أو السياقات المكانية والاجتماعية؛ فهي إذن مقدسة ومنزهة عن أي نقد، وعدم إخضاع هذه المعتقدات لفحص نقدي أو تحليلي يراجع الأسس التي تقوم عليها، ودون بحث في حدود وقدرات العقل المعرفية، فضلا عن عدم تمحيص الطرق التي توصل إلى المعرفة الصحيحة في كل لحظة تاريخية.
يواجه الفكر المعاصر خطر الاستقطاب من طرفين متنازعين، يتمثلان فى رؤيتين للغلو أصبح لهما الصوت الأعلى فى الجدل الجاري على مختلف الساحات، وفي العديد من الثقافات، وهما: تيار التطرف العلمانى وتيار التطرف الديني.. إذ يتحدث التيار الأول وكأن الله غير موجود، بينما يتحدث التيار الثانى وكأن الإنسان غير موجود ! بمعنى أنه ينزع من الإنسان كل فاعلياته ومسئولياته ومواهبه. التيار الأول جعل مرجعيته المادة وقيم القوة وطموحات الفردية، والتيار الثانى يفهم تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن.....التيار الأول يقطع اي صلات تواصل بين السماء والأرض ومن ثم ينزع الأخلاق ببطء وينشر مباديء النفعية والمادية وهيمنة فكره علي الآخر ليتحول فكره العلماني بالتدريج من فكر صنع من أجل الأنسان لفكر يحارب الأنسان....فكما أدعي نيتشه بأن الله مات...فأننا علي مشارف موت الأنسان............التيار الثاني المتطرف دينياً يفهم تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن، ومن ثم حوّلها من تعاليم للروح والجسد معا إلى تعاليم طقوسية (صلاة . صوم . زكاة .حج ) وقتل فلسفتها وفكرها التقدمي والمتحرك مع الزمن من حيث مباديء العدل (العدل هنا يشمل العدل الأجتماعي لتحقيق حياة آمنة والعدل السياسي لتحقيق معني المواطنة من حقوق وواجبات والعدل الثقافي من حض علي الثقافة والعلم) ومباديء الأحسان والتطوير
وكلا التيارين –رغم تعارضهما بل وتشاحنهما على الساحتين الثقافية والسياسية– يشتركان في مجموعة من السمات التى تجعل الصراع بينهما صراعا عقيما، هي: توهم الاستئثار بالحقيقة، ونفى الآخر، وقصور البصر والبصيرة، وثقافة التسلط، والانغلاق على نظام قيم معين بصورة نصية، وعدم الرغبة في فتح قنوات للحوار، وازدراء الرؤى المخالفة وتخوينها، وعدم السعي للبحث عن أرضية مشتركة. وهذه كلها ببساطة هي سمات الدوجماطيقية
الدوجماتية بمعناها السابق هي نقيض للعقل النقدي وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني كانط في كتابه "نقد العقل المحض".....والعقل النقدي هنا هو العقل التنويري الذي يسعي دائماً لتطوير أساليبه المعرفية من خلال نقد الواقع ومن ثم القفز من مرحلة حضارية لأخري دون نبذ الماضي او تحطيمه ولكن تطويره...فلأنسان بطبيعته كائن متطور عقلياً ....ومن ثم حضارياً
من أهم السمات المميزة للدوجماتية السلطة المطلقة للآباء أو الأجداد أو المفكرين والعلماء...والسلطة هنا بمعني السلطة الفكرية فالآباء بمعتقداتهم الأجتماعية والمعرفية والثقافية يورثون تلك العادات لأدمغة أبنائهم عبر التنشئة الأجتماعية بغض النظر عن صواب او خطأ تلك المعتقدات.....والعلماء والمفكرين والفقهاء ( في مجال الدين)يفرضون أفكارهم ومعتقادتهم التي قد تكون معرضة للخطأ او الصواب. هنا يتمثل غياب العقل الناقد لأفكاره الذاتية المتمسك بأفكاره لحد ترقيتها لنصوص تحمل هالة القدسية التي ما أنزل الله بها سلطان......ويتجلي ذلك التفكير الدوجماتي في مقولة مثل مقولة ( الحق يعرف بالرجال ) وبهذا المعنى تكون الدوجماطيقية نظرية تقرها السلطة المعرفية (دينية كانت أم علمانية)، ويلتزم بها الأعضاء الواقعون تحت هذا السلطة، دون تمحيص أو برهان كاف. بمعني ان تتمثل السلطة في رجال يمثلون الأنموذج الحق وكل ما عداهم من أفكار تناقضهم هي ضرب من ضروب الباطل
وهذا الشكل ذكره القرآن الكريم، وانتقده عندما ذكر حجة الكافرين والمشركين في الدفاع عن عقائدهم الباطلة، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} ( البقرة:170)....فتظهر هنا طريقة الكافرين الدوجماطيقية في تأكيد معتقداتهم بسلطة الآباء دون برهان عقلي، ودون اهتداء إلى طريقة التفكير السليم و ولذا قال الإمام عليّ: "إن الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن يعرف الرجال بالحق".
لمحات تاريخية عن الدوجما
==========
من أكبر الممثلين للدوجماطيقية في القرن العشرين الأصولية الماركسية التي تزعم أن تعاليم ماركس ولينين هي مبادئ وقواعد مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. والأصولية الماركسية تتسم بالجمود الأيديولوجي النظري، وهي سمة أي مذهب دوجماطيقي يرفض التجديد؛ حيث تصبح كتابات الآباء المؤسسين مراجع أقرب للنص المقدس.
نجد فلسفة هيجل في القرن التاسع عشر؛ حيث زعمت امتلاك الحقيقة المطلقة، وفسرت كل شيء بطريقة دوجماطيقية شاملة، واعتبرت نفسها الفلسفة المطلقة التي حازت كل معرفة بالحقيقة. بل يمكن القول بأن أكبر فلسفة اتسمت بالدوجماطيقية في العصر الحديث هي فلسفة هيجل.
أما عن الأسلام والدوجماتية فقد يتسع الحديث لضرب العديد من الأمثلة التي تمثل أقتراب الأسلام الشديد من طريقة التفكير النقدية ,فنري في القرآن الكريم آيات عديدة
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} ( البقرة:170). وهذا أمر مستهجن وضد مبادئ العقل المنطقي وضد البداهة؛ لأن المعتقدات ينبغي أن تؤسس على براهين وليس على سلطة الرجال، وفي هذا المحك نري أن الأسلام قد جاء ليزرع التفكير النقدي في مجتمع بدوي كان أبعد ما يكون عن نقد ذاته وأفكاره وأعتماده المطلق علي تفكير القبيلة الجمعي وليس التفكير الفردي الحر وذاك ما يسمي الشك المنهجي هو مجرد خطوة في عملية التفكير نحو المعرفة المنضبطة، مثلما فعل إبراهيم عليه السلام مع عقائد قومه في الكواكب والنجوم؛ فقد شك فيها وفق مراحل ذكرتها سورة الأنعام : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام).....فالشك المذهبي هنا هو نقيض الشك المنهجي الذي يزعم بشكل يقيني -وهنا المفارقة- أن المعرفة غير ممكنة مطلقا يمثل دوجماطيقية سلبية؛ أي هي القفاز نفسه .. مقلوبا.
ومثل هذه الشكية المنهجية ليست دوجماطيقية على الإطلاق، على العكس من الشكية المذهبية التي تجزم بشكل يقيني دوجماطيقي بأن المعرفة غير ممكنة مطلقا! بل لقد سار إبراهيم -عليه السلام- على هذا النهج حين طلب البرهان وسعى له حتى في سؤاله لله تعالى: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260)، وأراه الله البرهان بمعجزة ولم ينكر عليه السؤال، وكذا موسى حين سأل ربه أن يراه؛ فالعقل لا مصادرة عليه، وإنما تحميه في النهاية حدوده وسقف بشريته.
ومن أكبر النماذج الفقهية البارزة لمناهضة ورفض الدوجماطيقية المنغلقة الإمام الشافعي الذي اختلف مذهبه الفقهي في مصر عن مذهبه القديم في العراق، ومن بين أسباب هذا الاختلاف مراعاة ظروف الزمان والمكان.
الدوجماطيقية يرفضها كثير من علماء أصول الفقه الإسلامي الذين يراعون في تفكيرهم المصالح المرسلة، والضرورات، والاستحسان، وظروف العصر.....لكن من جهة أخرى يتسم بعض الفقهاء بهذه السمة الدوجماطيقية، حين يرفضون مراعاة ظروف المكان والزمان، ولا يأخذون بالمصالح المرسلة والاستحسان وغيرهما، وهو ما يحدث حين يغلب التقليد في الفقه على الاجتهاد
والقرآن يؤكد على إمكانية المعرفة ووجود معايير للمعرفة الحقة، وينتقد الأساليب الزائفة غير البرهانية، ويدعو للمعرفة التجريبية المبنية على النظر في الكون والآفاق والنفس، وغير ذلك من الأساليب التي توصل للمعرفة المنضبطة
الآثار السلبية في المجتمعات التي تغلب عليها الدوجماتية
==========================
المجتمعات العربية بصفة عامة من المجتمعات التي تخضع للتفكير الدوجماتي ويتمثل ذلك في الكبت الفكري الذي يعانيه الطفل منذ نعومة أظافره فهو يتلقي أفكاره المعرفية التي سيبني عليها فيما بعد طريقته في معرفة واقعه الشخصي وواقع مجتعمه والعالم عموماً من السلطة الأسرية والأبوية والمجتمعية بدون السماح لهامش من التفكير النقدي الحر......وعندما يبدأ في النضوج نجد السلطة الدينية تحيط به ليتلقي معرفته الدينية من تيار أحادي معادي للآخر بأعتباره كافر او فاسق او باطل وبذلك ينحي تفكيره عن التساؤل حول أسباب تقدمهم وتخلفنا ويصاب بأزدواجية أستغلال منتجات الآخر والأنبهار به من جهة والأبتعاد عن التفكير في كيفية أنتاج الآخر لهذا المنتج من جهة أخري
يقول الدكتور يحيي هويدي : رجل الشارع متعصب لآرائه إلى أبعد الحدود، لا يقبل أن يناقش آراءه ومعتقداته أحد، يعتقد في ذكائه المفرط وقدرته الخارقة على معالجة الأمور......وتلك فيما أري من آثار دوجماتية المجتمع التي تجعل الفرد قد ينقل تلك الدوجما والقداسة الي ذاته بدون شعور منه ليصبح عبداً لأفكاره ....ومن يعبد ذاته وأفكاره هو بالتأكيد أنسان فقد النزعة الأخلاقية وان نراه قد تمسك بالشعائر الطقوسية للدين....فهو قد يصلي ويصوم ويحج كل عام ولكنه فاسد أخلاقياً ومستعد لتوريث فاسده في نطاق أسرته ومجتمعه المحيط به
خاتمة
===
ما قصدته من توضيح معني الدوجماتية هو مزيد من التوضيح لفكرة التنوير التي تناولتها بتبسيط في التدوينة السابقة ووساعد في توضيحها أخي ومعلمي علان العلاني
فلنخرج من كهوفنا التي عكفنا فيها أمداً لننفض الغبار عن عقولنا التي نامت طويلاً لنستشرف أولي خطوات وسبيل النهوض من كبوتنا ألا وهي القرآة التأسيسية للأعمال الفكرية عبر تاريخ الفكر الفلسفي من فلسفة يونانية عبوراً بالفلسفة الأسلامية ممثلة في ابن رشد وعملاقة التصوف الأسلامي كأبن عربي و النفري وفريد الدين العطار لنتوقف عند المحطات المعاصرة من للفلسفة الغربية
خالص مودتي وتحياتي
Thursday, October 26, 2006
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
8 comments:
مقالك رائع وتميزه بساطته
والحقيقة أن الدوجماطيقية كداء في مجتمعات التخلف التي نحن فيها تحتاج الى جهود خارقة للقضاء عليها
فمجرد مناقشة الفكرة أي فكرة صار محرما بين الناس فصاروا يحملون موروثاتهم وتابوهاتهم دون أدنى ارادة في تمحيصها أو مجرد مناقشتها
هذه الدوجماطيقية في رأيي متعددة الأسباب وظاهرة مركبة ومعقدة فالظروف السياسية والثقافية والاجتماعية في مجتمعاتنا تؤثر بشكل مباشر على أسلوب تفكير رجل الشارع العادي بل انها تجعل من التفكير أساسا ترفا لا يجد هذا الرجل البسيط وقتا لممارسته
كما أن النظام المستبد الذي يقبض على الدولة جعل من التفكير جريمة وجعل من المفكرين والأكاديميين شخصيات مهمشة لا يهتم بها اعلامه الموجه ولا جرائده الصفراء
رحمة الله على الأستاذ نجيب محفوظ اذ يقول:
" وجدت نفسي فوق شريط يفصل بين البحر والصحراء. شعرت بوحشة قاربت الخوف. وغي لحظة عثر بصري الحائر على امرأة تقف غير بعيدة وغير قريبة. لم تتضح لي معالمها وقسماتها ولكن داخلني أمل بانني سأجد عندها بعض أسباب القربى أو المعرفة. ومضيت نحوها ولكن المسافة بيني وبينها لم تقصر ولم تبشر بالبلوغ. ناديتها مستخدما العديد من الأسماء والعديد من الأوصاف فلم تتوقف ولم تلتفت. وأقبل المساء وأخذت الكائنات تتلاشى, ولكنني لم أكف عن التطلع والنداء. أصداء السيرة الذاتية(65)
شكراً يا مزمز علي تعليقك الكريم...فالفعل هي ظاهرة مركبة ومعقدة ولكن يمكن تفكيكها بعون الله للوصول لنتيجة ما
مزمز...لو عندك اصداء السيرة الذاتية حاول تبعتهالي
شكراً
هذا هو لينك الكتاب على موقع صخر اعمل كوبي بيست
http://thaqafa.sakhr.com/ketab/pages.asp?Lnk=mhfoaz/a001.xml
الدوجماتية و دوجما الدوجما1
سطوع وأفول المفاهيم
العزيز أيمن
أعرف أنك الأن فى عميلية تأهيل لتتحول من مواطن مدنى الى مقاتل، لا أعرف ظروف هذه العملية الأن ولكن هى تجربة يخوضها المرء ممارسا لعملية تماهى ماديه بينه وبين مفهوم الولاء والمواطنه ولكنها ككل تجربة لها خبرتها وثرائها فى الكيان وبالتأكيد فى الخاطر--وأصدقك القول أشعر بنوع من المسؤليه تجاه تلك الرؤا التى تنظرك لتزيدها رواء لذا شعرت بامكانية مواصلةالحوار من فتره الى أخرى متخيلا أنك قد تجد طريقة ما للقراءة وان لم يكن للتواصل
فى معرض تحليلة لرواية 1984 لجورج اوريل يقول ميلان كونديرا
هناك جانب فى الروايه يقوم بدور ردىء وتأثير سىء ومريب ويكمن فى أستلاب الواقع وتقليصة بشده وذلك بتغليب جانبه السياسى على بقية الجوانب الإخرى. وفى هذا الجانب السياسى يتم أختصاره فى نواحيه السلبيه فقد. لهذا يرفض ميلان كونديرا بعد هذا الرصد أن يغفر للكاتب هذه القصديه بحجة أنها مفيدة كوسيلة من وسائل الدعاية فى النضال ضد الشر الشمولى ذلك أن الشر الشمولى فيما يرى كونديرا . هو بالضبط تقليص الحياة السياسية والسياسة نفسها لتصبح عندئذ مجرد دعاية للنظام القائم أو للحزب الحاكم. وهكذا يمكن القول أن رواية أوريل بفرض نوياها الطيبة تنتسب هى نفسها إلى العقلية الشمولية، عقلية الدعاية. أنها تقلص وبقصديه حياة مجتمع مقيت وذلك من خلال الإقتصار على ابراز جرائمة ومسالبه فقط. ولعل تلك القراءة التفكيكية لرواية جورج اوريل تشير الى ما خلف الدوجما الا وهى مشكلة الحقيقة وفى زمن أشبه بوصف (أنطونيو جرامشى) الذى يقول فيه
"القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفى هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة فى تنوعها
"
لذاأعتقد ان التأمل فى مفهوم الحقيقة قد يساعد على رصد أسترتجيات الدوجما التى تتأسس حولها بزريعة الدفاع عنها فى الخطابات المختلفة
وللحديث بقيه
الدوجماتية و دوجما الدوجما2
سطوع وأفول المفاهيم
ولكن قبل التحديق في مفهوم الحقيقة لرصد أستراتيجيات الدجما التى تتأسس حولها بزريعة الدفاع عنها فى الخطابات المختلفة، لنعود للبوسط السابق الذى يرتبط أوثق الإرتباط بهذا البوسط الذى بدأ بهذ السؤال هكذا "
سؤال سأله الفيلسوف الألماني الأشهر كانط صاحب (نقد العقل الخالص)...عام 1784م
ولكن حقيقة ما حدث منذ 223أن كانط كان يجاوب على السؤال و لم يكن هو واضعه ففي عدد شهر دجنبر 1783 من "مجلة برلين الشهرية" نشر راهب من برلين اسمه تسولنر Johann Friedrich Zöllner
(1753-1804)
ردا على مقال سبق أن نشرته نفس المجلة في عدد شتنبر من نفس السنة يدافع فيه كاتب لم يفصح عن اسمه عن الزواج المدني. خصص تسولنر مقاله لانتقاد الزواج المدني والدفاع عن عقد الزواج في الكنيسة، معتبرا أن ذلك من مصلحة الدولة ذاتها؛ إلا أنه في نفس الوقت هاجم الخلط الذي نشأ في أذهان الناس وقلوبهم بصدد مفهوم التنوير. وقد ألحق بمقاله هامشا مستفزا كتب فيه : "ما هو التنوير؟ هذا السؤال الذي يعادل تقريبا في أهميته السؤال : ما هي الحقيقة، يجب الإجابة عنه قبل البدء في التنوير! ومع ذلك فإنني لم أعثر في أي موضع على جواب عنه!"
هذا السؤال المندس في هامش مقال كتبه راهب بروتستانتي مجهول نسبيا عن قانون الزواج سيكون مثمرا بالنسبة لتاريخ الفلسفة. وهكذا سينشر أولا موسى مندلسزون Moses Mendelssohn (1729-1786) مقالا بعنوان: "حول السؤال: ما معنى التنوير؟" في عدد شتنبر 1784 من نفس المجلة. بعد ذلك سيظهر في عدد دجنبر من نفس السنة مقال كنط الذي يتضمن تعريفه المشهور للتنوير. يتبين من ملاحظة كنط في نهاية المقال أنه لم يكن حين كتابته على علم بمضمون مقال مندلسزون، وإن كان علم بصدور مقال له حول هذا الموضوع من خلال قراءته لجريدة أسبوعية نشرت إعلانا يتضمن محتويات عدد شتنبر 1784 من "مجلة برلين الشهرية".
* نقدم فيما يلي ترجمة لمقال كنط كما نشر في المجلد 11 من مجموعة مؤلفاته التي نشرتـها دار Surkamp تحت إشراف Wilhelm Weischedel، فرانكفورت، م 1966، ص 53-61.
ويجب أن أشير إلى أنني اعتمدت في كتابة هذا التقديم وكذلك بعض هوامش الترجمة على الكتيب الذي أصدره Erhard Bahr تحت عنوان " ما هو التنوير؟"، دار النشر Reclam، شتوتجارت 1974، والذي يضم نصوصا لفلاسفة ألمان حول مفهوم التنوير وتعليقات عليها.
التنوير(1) هو خروج الإنسان من القصور(2) الذي يرجع إليه هو ذاته. القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون قيادة الغير. يكون هذا القصور راجعا إلى الذات إذا كان سببه لا يكمن في غياب الفهم، بل في غياب العزم والجرأة على استخدامه دون قيادة الغير! Sapere aude (3)، تجرأ على استخدام فهمك الخاص!(4) هذا إذن هو شعار التنوير.
إن الكسل والجبن هما السبب الذي يجعل طائفة كبيرة من الناس يظلون، عن طيب خاطر، قاصرين طوال حياتهم، حتى بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم، منذ مدة طويلة، من كل قيادة خارجية (naturaliter majorennes)(5)، والذي يجعل أخرين ينصبون أنفسهم بسهولة أوصياء عليهم. إنه من المريح جدا أن يكون المرء قاصرا. إذا كان لدي كتاب له فهم نيابة عني، وواعظ له ضمير نيابة عني، وطبيب يحدد لي نظام تغذيتي الخ، فإني لن أحتاج إلى أن أجتهد بنفسي. ليس من الضروري أن أفكر ما دمت قادرا على أداء الثمن؛ ذلك أن الآخرين سيتحملون هذا العمل المزعج نيابة عني. أما أن الأغلبية الساحقة من الناس (وضمنهم الجنس اللطيف بأكمله) يعتبرون أن الخطوة نحو الرشد، فضلا عن أنها شاقة، خطيرة جدا كذلك، فهذا ما سبق أن دبره أولئك الأوصياء الذين يتحملون الإشراف العام عليهم بطيبوبة تامة. فبعد أن يجعلوا أولا ماشيتهم مغفلة، وبعد أن يحرصوا بعناية على ألا يسمح لـهذه المخلوقات الهادئة بأن تتجرأ على القيام بخطوة واحدة خارج عربة المشي(6) التي حبسوها داخلها، بعد ذلك يبينون لهم الخطر الذي يتهددهم إذا ما حاولوا المشي بمفردهم.صحيح أن هذا الخطر ليس بالذات جد كبير، لأنهم سينتهون بتعلم المشي بعد أن يسقطوا بضع مرات؛ إلا أن مثالا واحدا من هذا النوع يثير الوجل لدى المرء ويردعه عموما عن القيام بمحاولات أخرى.
إنه إذن لمن الصعب على أي إنسان بمفرده أن يتخلص من القصور الذي أصبح تقريبا بمثابة طبيعة له. بل أكثر من ذلك، إنه غدا يحبه، وهو في الوقت الحاضر عاجز بالفعل عن استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يسمح له أبدا بأن يحاول ذلك. إن النظم والقواعد، هذه الأدوات الميكانيكية لاستعمال المواهب الطبيعية، أو قل لسوء استعمالها، هي بمثابة قيود للقصور الدائم. وحتى من خلعها، لن يتمكن من القيام إلا بقفزة غير آمنة فوق أضيق الحفر، لأنه لم يتعود على مثل هذه الحركة الحرة. لـهذا السبب، لم يوفق إلا القليلون في أن ينتزعوا أنفسهم من حالة القصور بواسطة مجهودهم الخاص وأن يسيروا مع ذلك بأمان.
أما أن ينور جمهور(7) ذاته، فهذا بالأحرى ممكن، بل إنه تقريبا أمر محتم إذا كان هذا الجمهور متمتعا بالحرية. ذلك أنه، في هذه الحالة، سيوجد دائما، حتى بين من نصبوا أنفسهم أوصياء على الأغلبية، بعض الذين يفكرون بأنفسهم ، والذين، بعد أن يتخلصوا هم أنفسهم من ربقة القصور، ينشرون حواليهم روح تقدير عقلي لقيمة كل إنسان واستعداده لأن يفكر اعتمادا على نفسه. والغريب هنا أن الجمهور الذي سبق أن وضع من قبلهم تحت ربقة هذا القصور، يجبرهم بعد ذلك، هو أيضا، على أن يظلوا تحتها، إذا حرضه على ذلك بعض أوصيائه العاجزين عن التنوير. إلى هذا الحد يكون ترسيخ الأحكام المسبقة مضرا، لأنها في الأخير تنتقم لنفسها من أولئك الذين كانوا هم أنفسهم أو أسلافهم واضعيها. لـهذا، لا يمكن لجمهور أن يبلغ التنوير إلا بتأن. فالثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي والاضطهاد المتعطش للمصلحة المادية أو السلطة، ولكن لا يمكن أن تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير (8)، بل فقط إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة، مثلما كانت تستخدم القديمة، كشريط موجه (9) للأغلبية التي لا تفكر.
وإنه من أجل هذا التنوير لا يتطلب الأمر شيئا آخر غير الحرية وبالضبط تلك الحرية الأقل ضررا بين كل ما يندرج تحت هذا اللفظ، أي حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين. إلا أنني أسمع من جميع الجهات صوتا ينادي : لا تفكروا !(10) فالضابط يقول : لا تفكروا، بل قوموا بالتمارين ! وموظف المالية : لا تفكروا، بل سددوا المبالغ! ورجل الدين : لا تفكروا، بل آمنوا ! (هناك سيد واحد في العالم (11) يقول : فكروا بمقدار ما تريدون وفي كل ما تريدون، لكن أطيعوا.) وهكذا يتم هنا في كل مجال تقييد الحرية. ولكن أي تقييد للحرية يعوق التنوير؟ وأي تقييد لا يعوقه، بل بالأحرى يفيده؟ أجيب : إن استعمال الإنسان لعقله استعمالا عموميا يجب أن يكون دائما حرا، وهو وحده يمكن أن يؤدي إلى تنوير الناس؛ أما استعماله الخصوصي فيمكن غالبا تقييده بصرامة شديدة، دون أن يعوق ذلك بشكل خاص تقدم التنوير (12). أعني بالاستعمال العمومي لعقلنا الخاص ذلك الاستعمال الذي يقوم به شخص ما بصفته رجل فكر (13) أمام جمهور يتكون من عالم القراء بأكمله. أما الاستعمال الخصوصي فأعني به ذلك الذي يمكن أن يقوم به المرء بصفته يتقلد منصبا مدنيا أو وظيفة مدنية ما (14). ذلك أنه من الضروري لبعض الشئون التي تـهم مصلحة الجماعة (15) أن توجد آلية معينة يجب بواسطتها على بعض أعضاء الجماعة أن يتصرفوا فقط بسلبية (16)، حتى يمكن، بفضل توافق تصطنعه الحكومة، أن يتم توجيههم نحو المصالح العامة، أو، على الأقل، منعهم من إتلافها. فهنا بالطبع لا يسمح بالتفكير، بل يجب على المرء أن يطيع. ولكن من حيث إن هذا الجزء من الآلة يعتبر ذاته في نفس الوقت عضوا في جماعة بأكملها، بل وفي المجتمع العالمي، وتبعا لذلك يخاطب، من خلال كتاباته، جمهورا، معتمدا في ذلك على فهمه الخاص، فإنه يمكنه، بلا شك، أن يفكر دون أن تتأثر بذلك الشئون التي عين لتصريفها كعضو سلبي إلى حد ما. وهكذا سيكون من المفسد جدا أن يريد ضابط، خلال أداء عمله، المجادلة جهرا في صواب أو فائدة أمر تلقاه من رؤسائه، بل عليه أن يطيع. ولكن ليس من العدل أن نحرمه، بصفته رجل فكر، من إبداء ملاحظات حول عيوب الخدمة العسكرية وأن يعرض هذه الملاحظات على الجمهور ليحكم عليها. والمواطن لا يحق له أن يمتنع عن أداء الرسوم المفروضة عليه، بل إن طعنا وقحا في هذه المستحقات، إذا كان عليه أداؤها، أمر يجب أن يعاقب عليه بصفته فضيحة (قد يمكن أن تسبب عصيانا عاما). ومع ذلك، فإنه لن يخل بواجبه كمواطن، إذا عبر عموميا، بصفته رجل فكر، عن آرائه حول عيوب هذه المستحقات أو أيضا جورها. وكذلك فإن رجل الدين ملزم بأن يعلم تلامذته وجماعته حسب رمز (17) الكنيسة التي يخدمها، لأنه قد تم تعيينه في هذه المهمة على أساس هذا الشرط. ولكنه يتمتع، كرجل فكر، بكامل الحرية في أن يفضي للجمهور بكل أفكاره المدروسة بعناية والمنبثقة عن نية حسنة حول ما هو خاطئ في ذلك الرمز واقتراحاته الرامية إلى تدبير أفضل للنظام الديني والكنيسي؛ بل وإن هذا يعتبر جزءا من رسالته. وليس في ذلك أيضا ما يمكن أن يسبب له وخز الضمير. ذلك أن ما يلقنه، بناءا على وظيفته كقائم بأعمال الكنيسة، يقدمه لا كشيء يتمتع هو بحرية تقلينه وفق ما يحلو له، بل كشيء عين لتلقينه حسب تعليمات الغير وباسمه. إنه سيقول : تعتنق كنيستنا هذا الرأي أو ذاك؛ هذه هي الحجج التي تستند إليها. ثم إنه يجلب لجماعته كل المنفعة العملية من القواعد التي قد لا يقبلها هو ذاته باقتناع تام والتي تعهد مع ذلك بتدريسها، لأنه ليس من المستحيل تماما أن توجد بين طياتـها حقيقة كامنة، ولأنه على أي حال لا يوجد فيها على الأقل ما يتناقض مع الدين الداخلي. أما إذا كان يعتقد بوجود هذا التناقض، فإنه لن يستطيع القيام بوظيفته بكيفية ترضي ضميره؛ وفي هذه الحالة، سيكون عليه أن يتخلى عنها. إن استعمال المدرس الموظف لعقله أمام جماعته هو مجرد استعمال خصوصي، لأن هذه الجماعة تبقى مجرد تجمع عائلي حتى وإن كان كبيرا جدا؛ وهو كقسيس ليس حرا في هذا الاستعمال، ولا يحق أيضا أن يكون حرا فيه، لأنه ينفذ مأمورية كلفه بها الغير. وعلى العكس من ذلك، يتمتع رجل الدين في الاستعمال العمومي لعقله، أي بصفته رجل فكر يخاطب الجمهور الحقيقي، أي العالم، بحرية غير مقيدة في أن يستخدم عقله الخاص وأن يتلكم باسمه الشخصي. ذلك أنه من الحماقة التي تؤدي إلى تأبيد الحماقات أن يكون أوصياء الشعب (في الأمور الدينية) هم أنفسهم قاصرين أيضا.
ولكن ألا ينبغي أن تتمتع هيئة من رجال الدين، مجمع كنسي مثلا، أو طبقة مبجلة (كما تسمى لدى الهولنديين (18) )بالحق في أن يلتزم أعضاؤها فيما بينهم قسما برمز معين غير قابل للتغيير، حتى يمارسوا، بل ويؤيدوا وصاية عليا دائمة على كل الأعضاء، وبواسطة هؤلاء على الشعب، أقول : إن ذلك غير ممكن تماما. إن مثل هذا التعاقد على منع كل استمرار في تنوير الجنس البشري هو باطل تماما، حتى وإن تم تأكيده من قبل السلطة العليا، من قبل برلمانات ومعاهدات السلم الأكثر رسمية. لا يمكن لعصر أن يتحد ويتفق على جعل العصر اللاحق في حالة تمنعه من توسيع معارفه (خاصة الملحة جدا) والتخلص من الأخطاء، وعموما التقدم في التنوير. فذلك سيكون جناية في حق الطبيعة البشرية التي تكمن غايتها الأصلية في هذا التقدم بالضبط. وإن للخلف الحق كل الحق في أن يرفض تلك القرارات وأن يعتبرها غير مشروعة وطائشة. إن محك كل ما يمكن إقراره على شعب كقانون يكمن في السؤال : هل يمكن لشعب أن يفرض على ذاته مثل هذا القانون؟ قد يكون هذا القانون ممكنا خلال زمن وجيز محدد لإرساء نظام معين، وذلك، إذا جاز التعبير، في انتظار قانون أفضل، على شرط أن تترك في نفس الوقت لكل واحد من المواطنين، وخاصة لرجل الدين، حرية أن يبدي عموميا، بصفته رجل فكر، أي من خلال كتابات، ملاحظاته على ما هو خاطئ في التنظيم الحالي؛ وفي أثناء ذلك يبقى النظام الذي تم إرساؤه قائما، إلى أن يبلغ فهم طبيعة الأشياء عموميا درجة متقدمة وأن تثبت صلاحيته إلى حد يسمح بأن يرفع للعرش بواسطة جمع الأصوات ( حتى وإن لم تكن كلها) اقتراح يرمي إلى حماية تلك الجماعات التي اتفقت مثلا انطلاقا من تصورها لفهم أفضل للأشياء، على تنظيم ديني مخالف، وذلك دون المساس بالجماعات التي تريد ترك الأمر على ما هو عليه. إنه من غير المشروع بتاتا الاتفاق، ولو خلال مدة حياة إنسان واحد فقط، على نظام ديني ثابت لا يمكن الشك فيه عموما، وبالتالي القضاء، إذا صح التعبير، على حقبة في مسيرة البشرية نحو التحسن، وجعلها غير مثمرة، بل وبسبب ذلك مضرة بالخلق. نعم، يمكن لإنسان أن يرجئ التنوير فيما ينبغي عليه معرفته، أما التخلي عنه، سواء بالنسبة لشخصه، أو أكثر من ذلك، بالنسبة للخلف، فهو خرق للحقوق المقدسة للإنسانية ودوس عليها بالأقدام. والحال أنه لا يحق للملك أن يقرر على شعبه ما لا يحق حتى لـهذا الأخير أن يقرره على ذاته، لأن نفوذه التشريعي يقوم بالضبط على أنه يوحد في إرادته الإرادة الشعبية بأكملها . وإنه إذا حرص فقط على أن يكون كل إصلاح حقيقي أو مفترض ملائما للنظام المدني، فيمكنه، فيما عدا ذلك، أن يترك رعاياه يقومون بما يرونه ضروريا من أجل خلاص نفوسهم؛ فإن ذلك ليس من مهامه، ولكن من مهامه بالفعل أن يحول دون أن يستعمل شخص العنف لمنع شخص آخر من العمل لغاية خلاص نفسه والتقدم في تحقيقه بكل ما يملك من مقدرة. إن تدخله في ذلك الأمر بممارسة المراقبة الحكومية على الكتابات التي يعمل رعاياه من خلالها على توضيح تصوراتهم، سينال من جلالته ذاتها، سواء أقام بذلك انطلاقا من تصوره الخاص الأسمى، فيعرض ذاته في هذه الحالة لمأخذ هو : Caesar non est supra Grammaticos (19)، أو وهو ما سينال من جلالته بكيفية أكبر بكثير، إذا ما أنزل سلطته العليا إلى حد دعم الاستبداد الديني الذي يمارسه بعض الطغاة في دولته ضد بقية رعاياه. والآن إذا تساءلنا والحالة هذه : هل نعيش حاليا في عصر متنور؟ فسيكون الجواب : لا، ولكن نعيش بالتأكيد في عصر للتنوير. ففي الوضعية الراهنة للأشياء لا زال ينقص الكثير عموما، لكي يكون الناس في حالة تسمح لهم بأن يستخدموا، في الأمور الدينية، فهمهم الخاص بكيفية آمنة وجيدة، دون قيادة الغير، بل لا زال ينقص الكثير حتى لكي يصبح من الممكن نقلهم إلى هذه الحالة. ولكن، في مقابل ذلك، هناك علامات واضحة على أن المجال مفتوح أمامهم الآن حتى يهيئوا أنفسهم بحرية لتحقيق ذلك، وعلى أن عوائق التنوير العام، أو الخروج من القصور الذي يرجع إليهم، تتناقص تدريجيا.
إن الملك الذي لا يرى من المشين به أن يقول بأنه يعتبر من الواجب ألا تفرض على الناس تعليمات في الأمور الدينية، بل أن تترك لهم في تلك الأمور الحرية التامة، والذي يدفع عن نفسه إذن حتى الاسم المترفع للتسامح، هو ذاته متنور، ويستحق أن يمدح من قبل كل من يعترف بالجميل في العالم وفي الأجيال اللاحقة بصفته أول من حرر الجنس البشري، على الأقل من جانب الحكومة، من القصور، وترك لكل شخص حرية استخدام عقله في كل الأمور التي تعود إلى الضمير تحت إمرة هذا الملك، يحق لرجال دين محترمين، دون مساس بواجبات وظيفتهم، أن يعرضوا على أنظار العالم، بصفتهم رجال فكر، بكيفية حرة وعمومية، أحكامهم وآراءهم التي تختلف ، في هذه النقطة أو تلك، عن الرمز الذي ينتمون إليه؛ ويحق ذلك أيضا، وبالأخرى، لكل شخص غير مقيد بواجبات أية وظيفة. إن روح الحرية هذه تنتشر أيضا خارج هذا المجال، حتى حيث يكون عليها أن تواجه عوائق خارجية تفرضها حكومة تسيء فهم دورها. إن ذلك يصلح كمثل يدل على أنه ليس هناك ما يخشى على الأمن العام ووحدة الجماعة في ظل الحرية. إن الناس يخلصون أنفسهم من تلقاء أنفسهم أكثر فأكثر من الخشونة، ما لم يتم العمل عمدا على تركهم في هذه الحالة.
لقد وضعت النقطة الرئيسية للتنوير، أي لخروج الإنسان من القصور الراجع إليه هو ذاته، في الأمور الدينية أساسا، لأن حكامنا ليس لهم أية مصلحة في أن يلعبوا دور الوصاية على رعاياهم في مجال الفنون والعلوم؛ وفوق هذا، فإن ذلك القصور، فضلا عن أنه الأكثر ضررا، فإنه أيضا الأكثر مساسا بالكرامة. ولكن نمط تفكير عاهل يشجع التنوير يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى أنه حتى في مجال التشريع، ليست هناك خطورة في أن يسمح لرعاياه باستعمال عقلهم الخاص استعمالا عموميا، وأن يعرضوا على العالم علنا أفكارهم حول شكل أفضل لـهذا التشريع، حتى وإن تضمنت نقدا صريحا للتشريع القائم. ولدينا على ذلك مثال ساطع لم يسبق فيه أي ملك ذلك الملك الذي نجله.
ولكن من جهة أخرى، يمكن فقط لمن هو متنور لا يخاف الظلال والذي يتوفر في نفس الوقت على جيش وافر العدد ومحكم التنظيم لضمان الأمن العام، أن يقول مالا يمكن أن تتجرأ جمهورية على قوله : فكروا بمقدار ما تريدون وفي كل ما تريدون؛ ولكن أطيعوا! هكذا يتجلى هنا، وكذلك في مجالات أخرى، مسار غريب وغير منتظر للأمور البشرية، إذا لاحظناه في عموميته، بدا لنا أن كل شيء فيه تقريبا يحمل طابع المفارقة. إن قدرا أكبر من الحرية المدنية يبدو أنه مفيد لحرية روح الشعب، ومع ذلك، فإنه يضع أمامها حواجز لا يمكن تخطيها؛ وعلى العكس من ذلك، فإن قدرا أقل منها يفسح المجال للشعب كلي يتفتح حسب كل مقدرته. إذا كانت الطبيعة قد أخرجت من تحت هذه القشرة السميكة البذرة التي ترعاها بالكيفية الأكثر حنوا، أي الميل والاستعداد للتفكير الحر، فإن هذا الأخير يؤثر بدوره تدريجيا على خلق الشعب (الذي يصبح بذلك شيئا فشيئا أهلا لحرية التصرف)، ويؤثر أخيرا حتى على مبادئ الحكومة التي تجد هي ذاتها من المفيد أن تعامل الإنسان، الذي هو الآن أكثر من مجرد آلة، بما يتلاءم مع كرامته.
كوينجسبرج/بروسيا، في 30 شتنبر 1784
إ. كنط
أقرأ يومه 30 شتنبر في عدد 13 شتنبر من "الأخبار الأسبوعية البوشينجية" (20) إعلانا عن عدد هذا الشهر من "مجلة برلين الشهرية"، الذي يضم ضمن مواده جواب السيد مندلسزون علة نفس السؤال. هذا الجواب لم يقع بعد تحت يدي، وإلا لربما جعلني أستغني عن كتابة جوابي هذا، الذي يبقى هنا مجرد تعبير عن كيف يمكن أن تحدث الصدفة تواردا في الخواطر.
الهوامش
1 - Aufklärung : تحريا للدقة ينبغي ترجمة هذا المصطلح بلفظ "التنوير"، ليس فقط لأنه يوافق اللفظ الألماني من حيث الصيغة، بل لأنه، علاوة على ذلك، يشير إلى أن الأمر لا يتعلق بحالة أو وضعية تسود فيها الأنوار، بل بعملية أو سيرورة يتم في إطارها نشر العلم والمعرفة المستندة إلى العقل، والتحرر من الأحكام المسبقة والمعتقدات المستندة إلى مختلف أشكال السلطة.
2 - mündig : majeur : راشد
unmündig : mineur قاصر
Mündigkcit : majorité : رشد
Unmündigkcit : minorité : قصور
3 - وردت هذه العبارة في النص باللغة اللاتينية، وهي تعني :"تجرأ على المعرفة "، وقد اتخذت شعارا للتنوير قبل كنط.
4 - يجب أن نلاحظ هنا أن كنط يورد شعار التنوير كدعوة أخلاقية تتخذ صيغة الأمر القطعي.
5 - وردت هذه العبارة في النص باللغة اللاتينية، وهي تعني: "راشدون من حيث الطبيعة". يريد كنط أن يقول إن هؤلاء الناس بلغوا السن الطبيعي للرشد، في حين أنهم من الناحية الفكرية لا زالوا قاصرين.
6 - Gängelwagen : إطار له عجلات يوضع فيه الأطفال على هيئة الوقوف ليساعدهم في تعلم المشي ويحميهم من خطر السقوط، ترجمت هذا اللفظ ب" عربة المشي".
7 - Le public : das Publikum : الجمهور يشكل، في مقابل الفرد مجموع الناس المنتمين لمكان أو إقليم أو دولة ما. استعمل في القرن الثامن عشر للدلالة على مفهوم المجال العمومي die offentlichkcit وكان يحمل دلالات أهمها: أ) مجموعة الناس المتجمعين في مكان عمومي، ب) قراء كاتب ما، عالم القراء، ج)كل من يعيش معنا في نفس الوقت.
8 - هذا الموقف من الثورة لم يمنع كنط من أن يعبر علنا عن تعاطفه، بل ومساندته لأفكار الثورة الفرنسية، في زمن لم يكن فيه ذلك مأمون العواقب.
9 - Lisière : Leitband : شريط موجه، شريط يربط في ملابس الأطفال الصغار الذين يتعلمون المشي ليوجههم خلال المشي ويحميهم من السقوط.
10 - räsonieren : لا يتطابق مدلول هذا اللفظ مع مدلول اللفظ الفرنسي raisonner، لأنه يختلف، كما يتبين من النص ذاته، حسب السياق الذي يستعمل فيه. فهو قد يحمل طابعا إيجابيا فيعني، أفكر عقليا، أصدر حكما بناء على أسس عقلية إلا أنه يتخذ في الغالب طابعا قدحيا فيعني : عارض، تكلم بعناء، جادل، جادل مجادلة صورية أو لفظية. ارتأينا ترجمة هذا اللفظ في النص بكامله ب"فكّر".
11 - يشير كنط هنا إلى ملك بروسيا فريدريك الثاني (1740-1786).
12 - الاستعمال العمومي للعقل هو ذلك الذي يقوم به الإنسان بصفته شخصا خصوصيا، أي كرجل فكر، أمام جمهور قرائه. أما الاستعمال الخصوصي فهو الذي يمارسه شخص بصفته يشغل منصبا عموميا.
13 - Le savant : der Gelehrte : اسم يطلق على من له تكوين ثقافي واسع ويمتلك معارف أساسية وشاملة. تحاشيت ترجمة هذا اللفظ ب"عالم" بسبب المضامين التي أصبح يحملها هذا اللفظ في عصرنا. يستحسن ترجمته ب "رجل العلم" أو "رجل الفكر"، وقد فضلت استعمال العبارة الأخيرة.
14 - bürgerlich : civil : ترجت هذا اللفظ في النص كله ب"مدني" ، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن التمييز بين ما هو مدني وما هو سياسي لم يكن واضحا في زمن كنط، وأن لفظ"مدني" كان إلى حدود القرن الثامن عشر مرادفا للفظ " سياسي". وعلى عكس ذلك اكتسب التمييز بين ما هو مدني وما هو سياسي دلالة أساسية بفضل الفصل الواضح الذي أقامه هيجل في فلسفة الحق بين دائرة المجتمع المدني ودائرة الدولة.
15 - Communauté : das gemeinwesen, das gemeine wesen : الجماعة
16 - passivement : passiv : بسلبية، بكيفية سلبية.
17 - symbole : symbol : رمز يعني في اللغة اللاهوتية لكل الكنائس مجموع التعاليم التي تعتنقها طائفة أو كنيسة، وتكون بمثابة صياغة للمعتقدات المشتركة بين أعضاء هذه الطائفة أو الكنيسة، وهي ملزمة لكل الأعضاء.
18 - في هولندا : تجمع كنسي يتمتع بسلطة التشريع في المجال الديني.
19 - وردت هذه العبارة باللغة اللاتينية في النص، وهي تعني : "ليس القيصر فوق النحاة".
20 - " الأخبار الأسبوعية البوشيخية" نشرة أسبوعية كان يصدرها بوشينج Anton Friedrich Büsching من برلين من 1773 إلى 1786، وكانت تتضمن بالأساس أخبارا عن الكتب الجديدة والمجلات الثقافية.
العزيز أيمن
فلنتأمل المقال لنعاود محاولة التحديق فى ظروف إنتاج السؤال التاريخية وموقعه داخل مركزية الحضارة الأوربية لا لتقديم إجابات بالطبع فما أسهل الإجابات فى زمن فاقد للمرجعية ولكن لمحاولة إنتاج الأسئلةالتى تخصنا على هوامش النص والتفاكر فى كيفية تحويلها ثم لنرى كيف خط هذا السؤال لنفسه خطاب كان على كل فلسفة لاحقة ان تواجهه وكيف كانت هذه المواجهه وأخرها مواجهة ميشل فوكو
وتبقى الاشارة المهمة
لمترجم,ومدقق ومحلل هذاالمقال إسماعيل المصدق عن الألمانية، له كل الشكر والتقديروكان ذلك فى مجلة فكر ونقد العدد الرابع
وللحديث بقية
كل عام وأنت في الخاطر--- صديق عزيز وأخ كريم
أخي العزيز علان العلاني
كل عام وانت بخير وأسرتك الكريمة
تأملي لهذا المقال فتح لي مجالاً رحباً لمعرفة التأسيس المفهومي في ظرف اوروبا التاريخي لمفهوم التنوير فلم أكن قد قرأت تلك الترجمة الثرية من قبل
أشكرك بشدة علي مجهودك الذي أدعو الله ان يجزيك عنه خيراً وأستئذنك في نشر مقالة كانط في تدويني الفقيرة
دائما معك للحديث بقية...في انتظار المزيد عن تماهي الخطاب التنويري مع الفلسفات اللاحقة حتي ميشيل فوكو
خالص مودتي وتقديري
انا حقيقة لا اعرفك شخصيا و وجدت مدونتك بالبحث لكن كل ما سعني ان اقوله انني في حياتي افتقد وجود بعض المفكرين امثالك ابناء الفكر الوسطي الرافض للغلو العلماني و الديني , اتمني ان يتواجد طريقة بيني و بينك للتواصل و تقبل تحياتي
Post a Comment